هزيمة “شرطي العالم” في البحر الأحمر: خسارة القتال والموارد والسردية والنفوذ
الصمود||تقرير||ضرار الطيب||
لا ينفك الأمريكيون عن التأكيد على أن تأسيس قواتهم البحرية ارتبط منذ البداية بمسألة حماية الملاحة الدولية وحرية البحار باعتبارها حجر زاوية في الاقتصاد العالمي وبالتالي السياسة، وبرغم أن المعنى الواقعي هنا هو الهيمنة على الممرات المائية للتحكم بالاقتصاد والسياسة الدوليين، ولعب دور “شرطي العالم” فإن ذلك ربما لم يعد يهم الآن بالنسبة للأمريكيين، الذين تحول هذا العنوان المقدس بالنسبة لهم إلى عبء كبير ربما تمنوا أنهم لم يبالغوا في تكريسه لأنه جعل هزيمتهم أمام القوات المسلحة اليمنية في البحر الأحمر أشد قسوة.
مؤخرا نشرت مؤسسة “هيريتيج” البحثية الأمريكية التي تمتلك تأثيرا سياسيا معتبرا في الولايات المتحدة، تقريرا اعتبر أن “دور شرطي العالم ربما أصبح يستنزف قوة هذا الشرطي” وذلك لأن تكاليف معركة البحر الأحمر أعلى بكثير من قيمة ما تم تحقيقه، حيث تصل تكلفة نشر مجموعة حاملات يتم استعراض القوة بها في الشرق الأوسط (حسب تعبير المؤسسة) إلى 7 ملايين دولار يوميا، أي أكثر من ملياري دولار سنويا بدون تكاليف الذخائر والنشاطات العسكرية المتنوعة.
وبالنظر إلى أن البحرية الأمريكية قد أنفقت ذخائر بقيمة 1.16 مليار دولار في البحر الأحمر وما حوله حتى منتصف يوليو الماضي، وفقا لمتحدث باسم البحرية، يمكن القول إن نشر مجموعة حاملة الطائرات الأمريكية “ايزنهاور” لمدة تسعة أشهر قد كلف الولايات المتحدة أكثر من ثلاثة مليارات بدون التكاليف التشغيلية المتنوعة للعمليات العسكرية كالطلعات الجوية والاستطلاع والصيانة وما إلى ذلك، والتي ربما كان يتحدث عنها النائب الجمهوري مايك والتز عندما قال لصحيفة “بوليتيكو” إنه يتم “إحراق عشرات المليارات من الدولارات” في البحر الأحمر.
مع ذلك فإن مهمة مجموعة حاملة الطائرات “ايزنهاور” لم تكن استعراضية، بل كان “شرطي العالم” يريد فعلا أن يمارس الردع، ولم يستطع، وهذا ما برهنته شهادات قادة البحرية الأمريكية نفسها، ابتداءا من التأكيد المتكرر على أن المواجهة مع اليمن هي “المعركة البحرية الأشد كثافة منذ الحرب العالمية الثانية” وصولا إلى الاعتراف بأنه “لا يمكن ممارسة سياسات الردع الكلاسيكية” ضد القوات المسلحة اليمنية.
لقد كان أقل من عام من الاشتباك مع قوة صاعدة بدون أسطول بحري، كافيا لجعل البحرية الأمريكية التي تصنف الأقوى في العالم تنظر إلى مدمراتها وحاملات طائراتها وأسلحتها المتطورة باعتبارها وسائل “تقليدية” ولم تكن هذه النظرة عابرة، بل كانت اصطداما بحقيقة ظاهرة ومزعجة سببت هزة كبيرة في ثقة الأمريكيين بقوتهم البحرية حتى أن مجلة “ناشيونال إنترست” خصصت سلسلة غير مسبوقة من التقارير والمقالات التي ناقشت مسألة انتهاء عصر حاملات الطائرات وعدم جدوى الاعتماد على السفن الحربية في مواجهة الخصوم الذين أصبحوا قادرين على التعامل معها من بعد، وضرورة إعادة النظر في احتمالات المواجهة مع الصين التي تملك ترسانة هائلة من الصواريخ المضادة للسفن والتي أثبت اليمن لأول مرة في التأريخ فاعليتها الكبيرة.
بل ذهبت النقاشات إلى أبعد من ذلك وصولا إلى استخدام وسائل إعلامية كبرى لمفردات “الهزيمة” و”النكسة” لتوصيف وضع البحرية الأمريكية في معركة البحر الأحمر، وهي توصيفات غريبة تماما على قاموس القوة التي اعتادت أن تردع الخصوم وتطمئن الحلفاء بمجرد انتشارها بالقرب من سواحلهم.
ومن المثير للاهتمام أن هذه الأصداء من النقاشات والاعترافات غير المسبوقة تعتبر جزءا من الحقيقة، بالنظر إلى سياسة التكتم التي تمارسها البحرية الأمريكية والمسؤولين الأمريكيين حول الوضع في البحر الأحمر، وقد حاولت واشنطن وبشكل معلن إبقاء الرواية الإعلامية تحت السيطرة إلى درجة أن طاقم المدمرة “يو إس إس كارني” بعد عودتهم إلى الولايات المتحدة اعتبروا أن “السيطرة على السردية” هو أهم الدروس التي يجب الاستفادة منها في هذه المعركة من أجل الإبقاء على السمعة والمعنويات، وهذا يشير بوضوح إلى أن حجم الهزة التي تعرضت لها كل من قوة وعقيدة البحرية الأمريكية كان كبيرا إلى حد أن ما “تسرب” فقط من القبضة الإعلامية كان اعترافا بالهزيمة والعجز، فكيف لو تم كشف كل شيء؟!
والحقيقة أن عجز الولايات المتحدة حتى عن “السيطرة على السردية” يمثل نقطة إضافية مهمة في هذه الهزيمة غير المسبوقة، فبالرغم من الحساسية الشديدة المتعلقة بحاملات الطائرات التي تعتبر أكثر من مجرد أدوات عسكرية بالنسبة للأمريكيين -إذ يرونها رمزا وطنيا مبجلا للقوة والهيمنة- لم يستطع الجيش الأمريكي إخفاء حقيقة تعرض (أيزنهاور) للضربات اليمنية، وبعد حملة إنكار تام لأي استهداف، ظهر القائد السابق لمجموعة حاملة الطائرات في فترة انتشارها، مارك ميجيز، على “يوتيوب” ليؤكد أنه اضطر لتحريك الحاملة عدة مرات في البحر الأحمر هربا من الهجمات اليمنية المميتة، ويصدّق تماما على ما أكده اليمن بشأن عملية مطاردة لم يسبق أن تعرضت لها حاملة طائرات أمريكية في أي مكان.
والآن لنضف إلى كل هذا أمرا آخر غير مسبوق وصادم بنفس القدر، وهو إسقاط 10 طائرات من طراز (إم كيو-9) الأكثر تطورا وكلفة بين الطائرات الأمريكية بدون طيار في غضون أقل من عام واحد، وهو أمر فشلت واشنطن أيضا في السيطرة على سرديته الإعلامية، حيث مثل إسقاط ثلاث طائرات هذا الشهر اختبارا لم تستطع الولايات المتحدة تجاوزه فيما يتعلق بإخفاء المعلومات، وأقصى ما استطاعت فعله هو التدرج في الاعتراف، ولم يمنع ذلك الخبراء في معهد واشنطن من التأكيد على أن اليمن (الذي بدأ من الصفر قبل سنوات قليلة في مجال الدفاعات الجوية) أصبح يمتلك أنظمة دفاع محسنة لا يستطيع الجيش الأمريكية اكتشافها وتعقبها!
لقد ظهر “شرطي العالم” أمام اليمن عاجزا وعجوزا كما لم يحدث من قبل، وقد رأى العالم كله ذلك وعرف أن الردع الأمريكي هو سمعة بنيت على استهداف خصوم ليس لديهم القدرة أو القرار للمواجهة، وعلى الرغم من أن خروج أمريكا من فيتنام وأفغانستان قدم أمثلة على إمكانية المواجهة والصمود، فإن الخروج من البحر الأحمر قدم برهانا متقدما وغير مألوفا على إمكانية تحقيق انتصار كبير وسريع على التقنية العسكرية للبحرية الأمريكية وعلى النفوذ السياسي الأمريكي، فإلى جانب الهزيمة العسكرية، كان هناك أيضا فشل فاضح في حشد الحلفاء وفي الاستفادة ممن تم حشدهم، فحتى الأوروبيين لجأوا إلى إعلان عملية بحرية “دفاعية” خاصة بهم لعدم الاصطدام بشكل كبير مع صنعاء، وقد كان من أهم أسباب فجوات التحشيد الإقليمية والدولية هذه معادلات الردع المسبقة التي ثبتها اليمن خلال السنوات الماضية.