عملية “الوعد الصادق” الثانية: الانهيار الكبير لأمن “إسرائيل”
للمرة الأولى في التأريخ، تتساقطت عشرات الصواريخ البالستية فائقة السرعة على قواعد عسكرية وأمنية في عمق كيان العدو الصهيوني، متجاوزة كل طبقات الحماية التي يتمحور حولها أمنه، بدءً بالمنظومات الدفاعية الداخلية والخارجية، مروراً بالرقابة الإعلامية والتضليل الدعائي، ووصولاً إلى “سمعة” الأمان نفسها، لتبدو “إسرائيل” مكشوفة كما لم يشاهدها أحد من قبل، بما في ذلك المستوطنين الذين لم يكن تدمير غزة قد نجح في محو ما تركه يوم الطوفان من رعب وجودي في نفوسهم، قبل أن يأتي الهجوم الصاروخي الإيراني ويلقي بهم إلى قلب مشهد الزوال مباشرة.
****
بعد أول هجوم بصاروخ فرط صوتي يمني على يافا المحتلة (تل أبيب) في منتصف سبتمبر الماضي، كان واضحا أن الكثير من الموازين الرئيسية للصراع بدأت بالتغير بشكل تأريخي لصالح جبهة المقاومة، فالطبقات الدفاعية للعدو (داخل الأراضي المحتلة وخارجها) ظلت لعقود من أبرز العوائق التي تحول دون تثبيت ميزان ردع مباشر بالمعيار الذي يفهمه العدو، وإن كانت قوى المقاومة قد نجحت في تجاوز هذه الطبقات في ضربات وعمليات معينة، أو تعويض صعوبة تجاوزها من خلال تكتيكات أخرى فعالة في الصراع، فإن العدو كان ما يزال يعول كثيرا على طبقات الدفاع والحماية كأساس استراتيجي وجوهري للأمن، وكان العقد بينه وبين المستوطنين والقائم على “الحماية” لم يسقط بشكل نهائي بعد، لكن دخول الصواريخ فائقة السرعة على الخط غيّر كل شيء.
ربما وجد العدو مساحة ضيّقة لخداع المستوطنين بعد وصول صواريخ (فلسطين 2) اليمنية إلى عاصمته، نظراً للعدد والكثافة، لكن الفجوة التي فتحتها هذه الصواريخ في قلب استراتيجية الأمن الصهيونية كانت أكبر من أن يتم ترقيعها إعلاميا، وبعد نصف شهر وصلت الصواريخ الإيرانية الفرط صوتية إلى عدة مناطق حساسة في عمق العدو لتعمق تلك الفجوة وتتجاوز ما هو أبعد من طبقات الحماية العسكرية، حيث نسفت حاجز “الرقابة” الإعلامية، وحاجز “التقديرات” السياسية والاستراتيجية، ومزقت جدار التضليل الدعائي، بل وهزت حتى سور الثقة بأمريكا.
لم يكن من المستغرب أن يظهر نتنياهو مرتجفا في الملجأ بعد الهجوم الإيراني غير المسبوق، فما حدث لم يكن عاديا سواء بالنسبة له كسياسي حاول طيلة الفترة الماضي أن يحشد حول نفسه الكثير من الإنجازات الوهمية إلى درجة تقديم نفسه كقائد ديني ملهم، أو كمستوطن يعرف أنه لا مستقبل له بدون حماية في مواجهة جبهة إقليمية تنشد زوال كيانه الإجرامي بشكل نهائي.
سقوط دفاع وهجوم العدو
لقد كان هناك نوع من الرصد للهجوم قبل أن يصل، وكان هناك توجيهات صارمة بالتعتيم الإعلامي أثناء الوصول وبعده، ثم كانت هناك منظومات دفاعية متعددة الجنسيات على طول الطريق، لكن الصواريخ وصلت وبزخم صادم، وتم توثيقها بوضوح شديد، وحتى لو تمكن العدو من إنكار خسائره بحكم طبيعة الأهداف العسكرية التي لا يستطيع الجميع الوصول إليها، فمن المستحيل عليه أن يقنع المستوطنين بأن ما شاهدوه ليس انهيارا تاما للاستراتيجية الدفاعية والأمنية وأن قاعدة “نيفاتيم” التي تم دكها بشكل مدهش، يمكن أن تصبح في أي لحظة ميناء أو مطارا أو منطقة مزدحمة إذا تصاعد الصراع، علما بأن هذا الانهيار لا يقتصر على منظومات الدفاع الصاروخي بل يشمل أيضا استراتيجية الاعتداءات الإقليمية التي قدمها العدو كـ”إجراءات وقائية لحماية إسرائيل”، وبالتالي فهو سقوط للدفاع والهجوم على حد سواء، وهو سقوط أيضا للتقييم الذي اعتمد عليه العدو طيلة الفترة الماضية بشأن موقف إيران والمحور، حيث بات واضحاً أن نتنياهو لم يكن مخطئا فحسب عندما عوّل على حرص طهران على عدم توسيع الحرب وتغير الرئيس الإيراني، بل كان أحمقاً لأنه عرض كيان العدو إلى هجوم تأريخي لا يمكن أن تعود الأمور بعده إلى سابق عهدها.
لقد أسقط هذا الهجوم أيضا استراتيجية دفاعية أخرى للعدو وهي محاولة تمزيق “وحدة ساحات” المقاومة، فبعد حرب نفسية إعلامية ركز فيها العدو على تكريس فكرة “تخلي إيران عن حزب الله والمقاومة” جاء الهجوم ليبرهن ما هو أكثر من العكس بكثير، وأن إيران ليست مجرد حليف للمقاومة بل طرف حاضر في الصراع، ويمتلك قرار وشجاعة الرد والتصعيد المباشر.
وخلافاً للفكرة التي حاولت حملة الحرب النفسية المعادية تكريسها، فإن الزلزال الذي أحدثه الهجوم الإيراني جعل فكرة أخرى تبرز فيما يتعلق بموقف الولايات المتحدة التي لجأت سريعا إلى التقليل من الهجوم قبل أن يحاول حتى العدو الصهيوني نفسه فعل ذلك، لتتركه عرضة لتحليلات إعلامية حول تخلي واشنطن عنه!.
لا خيار للعدو الصهيوني
إن الارتعاش هو بالفعل كل ما يملكه نتنياهو في مواجهة الانهيار الكبير الذي سببه الهجوم الإيراني، فحتى التصعيد الانفعالي الذي لم يخف العديد من مسؤولي كيان العدو رغبتهم في التوجه إليه، لن يوفر حتى المستوى الاستعراضي من “الردع” فضلاً عن تحقيق أي نتيجة فعلية، فميزان الردع الجديد الذي ثبتته جبهة المقاومة في هذا الهجوم أصبح ثابتاً وواضحاً وحاسماً ولا يمكن الالتفاف عليه بأي أحزمة دفاعية أو مساع دبلوماسية أو تضليل إعلامي: كل منطقة من الأراضي المحتلة هي الآن هدفا محتملا لعشرات الصواريخ الدقيقة التي قد تنهال عليها في أية لحظة، وإذا كان العدو يريد أن يفعل ما هو أكثر من الارتعاش لمواجهة هذا الواقع الصادم فليس أمامه سوى وقف الحرب والإبادة الجماعية في غزة.
يستطيع العدو أن يحيك ما يشاء من السرديات والدعايات، لكن المستوطنين الذين عرفوا في السابع من أكتوبر أن جيشهم لا يستطيع حمايتهم من البر، سيفكرون بشكل مباشر وبسيط: ما الذي يمكن فعله لكي لا تقتلنا صواريخ محور المقاومة في الهجمات القادمة؟ ولن تكون هناك أية إجابة مقنعة سوى وقف الحرب وتنفيذ مطالب المقاومة مؤقتا، والرحيل من الأراضي المحتلة.
موقع أنصار الله | ضرار الطيب