يحيى السنوار.. شهادة تمناها القائد وخاتمة تفضح دعاية الاحتلال
بعد عام أكثر من عام كامل على معركة طوفان الأقصى وما تلاها من إبادة إسرائيلية جماعية، ارتقى القائد يحيى السنوار رئيس حركة حماس بطلاً شهيداً، مقبلاً غير مُدبر، مُمْتَشقاً سلاحه، مشتبكاً ومواجهاً لجيش الاحتلال في مقدّمة الصفوف وأكثر محاور القتال خطورة في رفح جنوب قطاع غزة.
ورغم امتلاكها أكثر أجهزة التجسس والملاحقة تطورًا إلا أن قوات الاحتلال فشلت طيلة عام كامل من الوصول إلى السنوار، الذي طالما روجت دعايتها أنه مختبئ في الأنفاق أو بين المدنيين، لتكون المفاجأة استشهاده في اشتباك مسلح مع قوة صهيونية في خطوط القتال الأولى في رفح عن طريق الصدفة كما أقر بذلك الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هغاري.
هاغاري قال “لم نكن نعرف أنه موجود هناك، في البداية تعرفنا عليه بوصفه مسلحا داخل أحد المباني، وشوهد وهو ملثم يلقي لوحا خشبيا نحو الدرون (الطائرة المسيرة)” قبل ثوان من استشهاده.
القائد المشتبك
الصورة التي سربت لمهندس طوفان الأقصى، رئيس حركة حماس يحيى السنوار، أظهرته في لحظاته الأخيرة يرتدي جعبة عسكرية، ويقاتل المحتلين الغزاة حتى الرمق الأخير، بل ويربط يده النازفة بسلك حديدي أملًا بوقفه وقدم مبتورة، وهو الذي لم يتراجع أو يهادن أو يختبئ كما كانت تروج إسرائيل ومن خلفها أنصارها وبعض المرجفين.
يحيى السنوار شهيداً
إسرائيل بأجهزة دعايتها السوداء، طالما ادعت أن المطلوب الأول يختبئ بين المدنيين أو في باطن الأرض، تعترف هي بأنه حاربها حتى في الثواني الأخيرة وهو الذي حاول إسقاط طائرة مسيرة بقطعة من الخشب توفرت معه في تلك اللحظة التاريخية، عله يكشف عارًا يعتلي عالمًا صامتًا أو متخاذلًا أو متواطئًا.
التنقل بين مواقع القتال
وأكدت حماس في بيانها أن القائد السنوار كان يتنقل بين كل المواقع القتالية صامداً مرابطاً ثابتاً على أرض غزَّة العزَّة، مدافعاً عن أرض فلسطين ومقدساتها، ومُلهماً في إذكاء روح الصُّمود والصَّبر والرّباط والمقاومة.
نهاية القائد بالشهادة كانت متوقعة، أما طريقة استشهاده مشتبكا فشكلت مفاجأة للكثيرين، ولكنه اختارها بإرادته وعزيمته وأكرمه الله بها وهو الذي حمل همّ قضيته مبكرا.
وعاش القائد الشهيد يحيى السنوار مجاهدا وشق طريقه في حركة حماس منذ كان شابا يافعا منخرطا في أعمالها الجهادية، وأسس جهاز الأمن المعروف بـ”مجد”، ونشاطاته في الكتلة الإسلامية بالجامعة الإسلامية.
وأمضى 23 عاما في الأسر قاهراً للسجّان الصهيوني وبعد أن خرج من السجن في صفقة وفاء الأحرار واصل عطاءه وتخطيطه وجهاده، وتقلده عدة مواقع في قيادة حركة حماس وصولًا إلى رئاستها بعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية.
هندسة الطوفان
ونجا القائد السنوار من محاولات عدة لاغتياله منها محاولة في 11 أبريل/ نيسان 2003 بواسطة زرع جسم ملغم في جدار منزله بمدينة خان يونس جنوبي غزة، وأخرى في مايو/ أيار 2021 خلال الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة. حتى اكتحلت عيناه في السَّابع من أكتوبر 2023م؛ يوم الطوفان العظيم الذي زلزل عمق الكيان وكشف هشاشة أمنه المزعوم وما تلاه من ملاحم الصمود الأسطوري لشعبنا وبسالة مقاومتنا المظفرة، إلى أن نال أشرف مقام وأرفع وسام وارتقى إلى جوار ربه شاهدا شهيدا راضيا بما قدم من جهاد وعطاء.
ولعل اسهاماته في عملية طوفان الأقصى ووصفه بأنه مهندس العملية التي زلزلت الكيان الصهيوني، كانت أبرز المحطات في حياة الرجل المشرفة، وهو الذي بكل تأكيد يعي تمامًا أن مناصب القيادة في حركة حماس تكليف وليس تشريف، حيث قادة الحركة يرتقون شهداء في مراحل النضال الطويلة، بدءًا من الشيخ المؤسس أحمد ياسين، وليس انتهاءً عند السنوار.
رحيله شهيدًا إلى الله، ليست مجرد صدفة أو توقع، بل هي أمنية ورجاء باح بها أبو إبراهيم في لقاء جماهيري قبل 3 أعوام، فقد قال: “أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس”.
ومضى الرجل شارحا هذه الأمنية قائلا “في هذا السن اقتربت من الوعد الحق وأفضل أن أموت شهيدا على أن أموت فطيسة”.
السنوار إذن استشهد كما يتمنى، فقد استشهد وهو يرتدي زيه العسكري ويقاتل بكل ما استطاع من قوة، ولم يكن مختبئا في نفق مثلما ردد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مرارا.
صورة النصر
وكما حرم السنوار الاحتلال من الأمان في طوفان الأقصى، فقد حرمه أيضا في لحظاته الأخيرة من أعطائهم صورة نصر لطالما حلموا به، فرغم كل هذه القدرات العسكرية والاستخبارية، وكل هذه المساندة من قوى دولية كبرى مقابل سكوت إقليمي، فإن هذا الجيش الضخم لم يتمكن من قتل عدوه المقاوم إلا عن طريق الصدفة وخلال عملية تمشيط جرت في اليوم التالي للاشتباكات.
ونشر جيش الاحتلال الإسرائيلي ما قال إنها اللحظات الأخيرة لرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) يحيى السنوار بعد استشهاده إثر خوضه اشتباكات مع قوات الاحتلال في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة أول أمس الأربعاء.
ووفق الرواية الإسرائيلية، بادرت قوات الاحتلال للاشتباك مع هؤلاء الأشخاص دون أن تتمكن من تحديد هوياتهم، في حين لجأ أحدهم -تبين لاحقا أنه السنوار- بمفرده إلى أحد المباني، قبل أن تمسح طائرة مسيّرة إسرائيلية المنطقة.
وتظهر الصور التي نشرها الجيش الإسرائيلي، السنوار وهو ملثم يجلس على أحد المقاعد ويلقي لوحا خشبيا نحو مسيّرة إسرائيلية دخلت إلى المبنى، قبل أن يتم استهدافه بإطلاق قذيفة دبابة على المبنى.
تحليل الصور
ويعتقد الخبير العسكري العميد إلياس حنا أن الصور الإسرائيلية تظهر أن السنوار كان مصابا، وحاول إبعاد مسيرة إسرائيلية بعصا خشبية.
وقال حنا، إن هذه الصور تنسف السردية الإسرائيلية بأن السنوار كان يحتمي بالأسرى المحتجزين، إضافة إلى أن اغتياله جاء بمحض الصدفة “مما يعني وجود عمى تكتيكي واستخباراتي”.
ووفقا للباحث السياسي سعيد زياد، فإن السنوار كان يعلم أنه ميت على كل حال منذ أن أطلق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكنه مات مقاتلا غير مختبئ.
كما أن موت السنوار -برأي زياد- “يمنحه بطولة يستحقها رجل مثله لأنه مات وسلاحه في يده ولم يكن مختبئا كالجرذان ولا محاطا بالأسرى المدنيين، كما كان يردد قادة إسرائيل طيلة الوقت”. فضلا عن أنه استشهد صدفة وليس نتيجة عمل استخباري ولا عسكري معقد.
موت يضرب رواية إسرائيل
واتفق الخبير في الشأن الإسرائيلي إيهاب جبارين مع حديث سعيد بقوله إن موت السنوار جاء مكللا بالصدف وحرم إسرائيل من إخراج صورة تجعل موته يمنحها نصرا تبحث عنه كما اعتادت في كل عمليات الاغتيالات التي جرت بتخطيط مسبق.
وبناء على هذه الملابسات، فقد خرجت عملية استشهاد الرجل طبيعية كما حدثت ولم تمنح السردية الإسرائيلية فرصة التدخل بها، كما يقول جبارين، مشيرا إلى أن السنوار كان هدفا تبرر إسرائيل الكثير من عملياتها بدعوى البحث عنه، مما يعني أن المعطيات حاليا تدفعها للجلوس على طاولة المفاوضات بعد مقتل المطلوب رقم واحد بالنسبة لها.
وأشار زياد إلى أن حماس ستتأثر برحيل السنوار وكذلك قطاع غزة لكنهما لن يسقطا بعده كما لم يسقطا عندما استشهد عبد العزيز الرنتيسي الذي كان الخليفة الوحيد تقريبا في حينه لمؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين.
وقال إن الوصول إلى رجل بحجم السنوار عن طريق الصدفة يجعل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عاجزا عن تقديم رواية نصر لهذه العملية التاريخية، وهو المعروف بأنه ملك الرواية وملك الصورة.
وسيواجه نتنياهو حاليا -كما يقول جبارين وزياد- تساؤلات بشأن جديته في استعادة الأسرى ووقف الحرب التي لطالما حمّل السنوار مسؤولية فشل التوصل لاتفاق بشأنهما.
وبعيدا عن كل هذه التفاصيل، فإن إسرائيل تواجه معضلة كذبة رواية اختباء السنوار وصعوبة الوصول إليه بعدما استشهد الرجل في مواجهة عادية داخل منزل على سطح الأرض، كما يقول جبارين.