من اليمن إلى لبنان في أربعينية الشهيد الأقدس: نصر الله آت
الصمود||مقالات||علي ظافر
حين رأيت ذاك الغبار الكربلائي يغطي سماء حارة حريك في الضاحية الجنوبية، أحسست بألم يعتصر قلبي، وزاد في ذلك إعلان العدو أن المستهدَف في تلك الغارات، والأطنان من المتفجرات، شخص سماحة السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله. لم أنم تلك الليلة وما تلاها من ليالي الأحزان وسط حالة من القهر والحزن والغضب معاً تجتاح كل كياني، ولا تزال إلى اليوم، وستبقى إلى أن نرى بأم العين ثمن ذلك الدم الأغلى والأقدس عبر تحرير فلسطين، كل فلسطين.
منذ استشهاده إلى اليوم مر أكثر من أربعين يوماً، وأنا شخصياً أتردد في كتابة مقال يليق بمقامه الشريف والعظيم، فلو كتبت حتى يجف قلمي فلن أوفيه حقه، وكل الأقلام أمام قامة سيد الشهداء قاصرة.
حين اختلط الدم الطاهر بتراب القدس
لم تكن حالة شخصية عابرة، فحين اختلط دم الشهيد الأقدس بتراب القدس، اجتاح صدور معظم اليمنيين حالة تسونامي من مشاعر الحزن والغضب يوم السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر، بعد أن سمعوا الخبر الزلزال باستشهاد وفقد القائد الأممي العظيم الشهيد السيد حسن نصر الله.
وحين تسأل أحدهم وأنت لا تقوى على السؤال يرد عليك تلقائياً: إما بدموعه الحارة فوراً من دون أن يقوى على الكلام، وإما بقوله “لا أستطع تخيل المشهد العام في المنطقة والعالم من دون ذلك السيد العربي المعمم بالنصر، ولا أستطيع أن أتصور لحظة النصر ومهرجانها المقبل من دون إطلالته الشريفة، لكن قدر الله ما شاء وفعل، وهو أحكم الحاكمين”.
ظل اليمنيون في حالة نفسية عارمة من الحزن، بل إن كثيرين ظلوا يذرفون دموع الحزن وقلوبهم تعتصر ألماً، منذ تلك اللحظة التي نشر ذلك البيان الصاعقة بنعي سيد الشهداء على طريق القدس، القائد الأممي الكبير والعظيم السيد حسن عبد الكريم نصر الله، رضوان الله عليه، يوم السبت الـ 28 من أيلول/سبتمبر 2024، بسبب ما تربطهم به من علاقة عاطفية، إذ إن أجيالاً نشأت وتربت، وكبرت وهي تتابع خطابات السيد نصر الله بكل اهتمام، وانتصارات حزب الله، “سادة المجاهدين في هذا العالم، والذين أعادوا إلى الأمة اعتبارها وحفظوا شرفها”، كما وصفهم الشهيد القائد والمؤسس لأمة “أنصار الله”، ولأن نصر الله كان النصير الأول لليمنيين منذ اليوم الثاني للعدوان السعودي الأميركي على اليمن، وكان الناصر الشجاع لليمن واليمنيين طوال سنوات العدوان، على رغم ما تحمله حزب الله من أثمان، يحزن لحزنهم، ويفرح لفرحهم، بل كان يبكي أحياناً حينما يذكر اليمن أو يُذَكِّر ببعض مواقف اليمنيين. كان يرفع معنويات المقاتلين، ويواسي المظلومين في اليمن. وكان كذلك من دون تردد مع غزة منذ اليوم الثاني لطوفان الأقصى، الـ 8 من تشرين/أكتوبر، على رغم الاثمان الكبيرة، وأي ثمن أغلى من دم السيد حسن نصر الله، وإن شاء الله فإن ذلك الدم الطاهر والغالي هو ثمن تحرير القدس، ونحن نؤمن بذلك.
انهمرت البيانات الرسمية والسياسية، كما انهمرت الدموع، وأطل سيد الوفاء السيد عبد الملك في كلمته الاستثنائية، ليلة النعي، في الـ 28 من أيلول/سبتمبر، وخففت من حالة الحزن، وحولتها إلى حالة من الغضب، و”الصبر والاحتساب”. رفع المعنويات، لإسقاط هدف العدو في “كسر المعنويات”، ودعا إلى ” عدم الاستكانة وتصعيد الصراع”.
لم تمض سوى ساعات قليلة حتى ترجمت القوة الصاروخية اليمنية تلك الدعوة بقصف عمق العدو، وفي المقلب الآخر، غصت الميادين بملايين اليمنيين في مسيرات التحدي والتضامن. صور السيد حسن اجتاحت معظم الشوارع الرئيسة في العاصمة والمدن اليمنية، المحطات الإذاعية والتلفزيونية ومواقع التواصل ضجت بمقاطع من خطابات “شهيد الإسلام والإنسانية”، كما وصفه السيد القائد عبد الملك الحوثي. لقد كنا نسمع السيد حسن ونرى نصر الله في كل مكان، ومكانه ومكانته لا يوصفان أبداً في قلوب اليمنيين، قبل أن يستشهد وبعد أن استشهد، وصعدت روحه الطاهرة على طريق القدس، وأي طريق أعظم من هذه الطريق؟
حزب الله: من التعافي وسد الشغور إلى فرض المعادلات
لم تكن الصدمة أو الصدمات والضربات التي تلقاها حزب الله عادية، بل كانت قاسية جداً وكفيلة بإسقاط دول وأنظمة وكيانات لولا قوة حزب الله. لقد كان البعض يخشى بصدق من تبعات فقد رجل وقائد أممي بحجم السيد نصر الله على حزب الله ولبنان أولاً، وعلى المحور ثانياً، بينما كان بعض المراهنين ينتظر بحقد وشماتة لحظة سقوط حزب الله، ولم يسقط ولن يسقط حتى في أحلام هؤلاء، كما أكد ذلك الأمين العام الجديد لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، بل كما تؤكد الوقائع لنا ولكل المحبين للسيد حسن وحزب الله، وتأكد للجميع، أصدقاء وأعداء، أن نصر الله لم يمت بتراثه العظيم ورؤيته وخططه وبنائه القوي والصلب، وها هم أبناؤه ورفاقه ورجاله يترجمون ذلك عملياً في الميدان، ويكتبون بدمهم وعرقهم وتضحياتهم عنوان شرف الأمة من جديد، ومن جديد يُسقطون المشروع الصهيو – أميركي بشرق أوسط جديد، تماما كما فعلوا في عام 2006، وأعظم من ذلك، ولسان حالهم إن كان السيد حسن استشهد ورحل، فإن نصر الله آت.
لقد ترجل عن صهوة جواده الشريف وجهاده العظيم، شهيداً عظيماً، تاركاً خلفه إرثاً عظيماً، مودعاً الراية في أيد أمينة، وها هم أبناؤه ورفاقه وحاضنته ومحبوه يواصلون الخط حاملين تلك الراية الحسينية الخفاقة ولا تزال في الجنوب والضاحية والبقاع، داخل لبنان وخارجه، بحجم أممية الشهيد الذي لم تسقط له راية طوال اثنين وأربعين عاماً في كل الميادين، من التحرير في 2000 إلى التحرير 2017، ومن تموز 2006 إلى تشرين الأول 2024.
فشل أهداف العدو واستراتيجياته أمام قوة حزب الله
بعد ارتقاء سيد الشهداء، وخصوصاً في الأيام الأولى، كان الجميع، على اختلاف توجهاتهم، يراقبون المشهد من بعيد، وكنت على الصعيد الشخصي، ألمس حالة الصدمة المرسومة على ملامح رفاق عمل عرفتهم واختلطت بهم لسنوات وفي كلامهم ومشاعرهم (من البيئة الحاضنة لحزب الله) لا أدري ماذا أقول والمصاب جلل، سوى الصبر والاحتساب ومواصلة الخط والمشروع. ويوماً بعد يوم، كان الجميع بمن فيهم العدو، يلمسون ويلحظون حالة التعافي في جسم حزب الله وهيكله التنظيمي القوي، يُلاحَظ ذلك في صدور المجاهدين، في هممهم وسواعدهم، وصبرهم وصلواتهم وجهادهم، وجحيم نيرانهم على العدو في العمق وعلى حافة النصر. وفي غضون أحد عشر يوماً، تمكن حزب الله من سد كل الأماكن الشاغرة، من دون أن يكون هناك شغور في ثغور لبنان وفي ميادينه وساحاته.
كان مقعد الأمين شاغراً، إلى أن ملأه الشيخ نعيم قاسم في الـ 25 من تشرين/ أكتوبر، بإعلان الاستمرار في خط الأمين الشهيد واستكمال خططه، مواصلاً معادلات الشهيد ومرسياً معادلات قوة جديدة، مسقطاً كل رهانات الأعداء السياسية والعسكرية وأدواتهم، مؤكداً لهم أنهم لن يروا هزيمة حزب الله وسقوطه حتى في أحلامهم، مطمئناً البيئة والحاضنة بأن النصر آتٍ وأنهم بصبرهم وصمودهم وتضحياتهم وتجاوزهم سيول الحرب النفسية من كل حدب وصوب شركاء في صناعة الانتصار القادم حتماً.
خلاصات وعبر
في الخلاصة لم نر إلا جميلاً، على رغم عظيم التضحيات، وبعد أربعين يوماً نرى تباشير نصر الله القادم لحزب الله، والهزيمة الحتمية للعدو، بانسحاب العدو من محيط بلدة الخيام جنوبي لبنان على وقع ضربات أبناء نصر الله، وعلى وقع خسائر بشرية تجاوزت 1200 ضابط وجندي إسرائيلي بين قتيل وجريح، وأكثر من 40 دبابة وآلية مدمرة، لا نرى إلا جميلاً بتعمق أزمة النازحين من مغتصبات الشمال إلى الوسط على وقع صليات صواريخ حزب الله، ولا نسمع إلا جميلاً، ونحن نسمع ونقرأ لقيادات العدو تصريحات عن تأكّل تشكيلات جيش العدو، وما يعانيه من نقص كبير في فرقه العسكرية كما صرح أحد كبار جنرالاته، وبما لا يخوله (العدو) من البقاء في لبنان وغزة، ونرى العدو يترنح في الداخل على حافة انهيار اقتصادي واجتماعي، لأنه يخسر كل يوم قتالي مليار شيكل، ونرى الإشكالات والصدامات والتراشقات وتقاذف الاتهامات بين معسكر العدو في الحكومة والمعارضة، نرى أن كل استراتيجيات العدو فشلت وسقطت، من تفجيرات البيجرز، إلى الاغتيالات، إلى الاستباحة والعدوان بالقصف الجوي لتأليب البيئة على المقاومة وما ازدادت إلا تماسكاً، ونرى فشل الغزو البري، وفشل العدو في أهدافه منه. إننا من اليمن نرى هزيمة “إسرائيل وزوالها حتمية”، ونرى نصر الله قريباً، أليس الصبح بقريب، والنصر حليف حزب الله الغالب.