صمود وانتصار

مهدُ الوحي وموئلُ الروح.. أمانةٌ إلهية في قبضة الاستغلال

حسام باشا

عند كُـلّ نظرة تمتد نحو بيت الله الحرام، تتهادى الأرواح في فضاءات العشق الإلهي، وكأنها طيور شوق تحلق نحو سماء لا حَــدّ لها، هناك حَيثُ القدسية تعانق القلوب، ينساب الفؤاد المتعطش كما ينساب النهر الهادئ إلى مصبه.

إنها البقعة التي انتقاها الرحمن من بين كُـلّ البقاع، فجعلها قبلةً للجباه الساجدة ومهوىً للقلوب المؤمنة، وجهة المؤمنين من مشارق الأرض ومغاربها، يحجون إليها زرافاتٍ ووحداناً، مستجيبين لنداء أبديٍّ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}.

في رحابها، يتلاقى الطائفون كأمواج بحرٍ لا ينتهي، وفي دعائهم المتضرع تنداح آفاق الأمل، ويشرق اليقين في قلوبهم، هناك تستشعر الأرواح ألق الوحي ونقاء الشعائر، وكأن الكون بأسره يهمس بنغمة خاشعة تردّدها القلوب: «سبحان من جعلها مثابة للناس وأمنًا».

ومع ذلك، نجد في زمننا الراهن يدًا تعبث بهذا المكان المقدس، مستبيحةً قدسيته باسم المصالح السياسية والأطماع الدنيوية؛ إذ لم يعد الأمر يقتصر على استغلال هذه البقعة المباركة كمنصة لتسويق السياسات وإبراز توجّـهات المملكة العدوانية ضد قضايا الأُمَّــة الإسلامية، أَو على فرض قيود ظالمة تمنع حجاج دولة ما من أداء الركن الأعظم، أَو حتى على تسخيرها لبث رسائل التمجيد والمديح للنظام السعوديّ، بل تجاوز ذلك إلى توظيف موارد الحرم الشريف وما تدره من أموال طائلة في تمويل حفلات اللهو والمجون، التي باتت تقام بلا حياء تحت ستار مبتذل يسمى مواسم الترفيه.

تلك المليارات التي تتدفق سنويًّا من جيوب الحجاج والمعتمرين، وهي أموال طاهرة صبغت بدموع الخشوع وتضرعات القلوب، كان ينبغي أن تكون زادًا للفقراء، وحصنًا يذود عن الأُمَّــة ويكسر شوكة أعدائها، لكنها اليوم توظف في دعم سياسات تغذي الانقسامات وتثير الفتن، وتنفق على حفلات لا تَمُتُّ لروح الإسلام بصلة، في مشهد يثير الحسرة ويغرس في النفوس ألمًا عميقًا على ما آلت إليه قداسة المكان.

في الحقيقة، لم يكتف النظام السعوديّ بذلك الاستغلال الجائر الذي طال أقدس بقاع الأرض، بل امتدت يده إلى العبث بأقدس الرموز وأجل المفردات، تلك التي لطالما تجذرت في وجدان الأُمَّــة وروحها، مفردة «موسم» التي كانت تأتي ملاصقة لأعظم شعائر الله -موسم الحج- أضحت اليوم في مرمى الابتذال، عنوانًا لحفلات صاخبة، ومهرجانات تنضح باللهو، على مدار السنة، تحت مسمى مواسم الترفيه، وتستقدم لها فرق الراقصين والمطربين من مختلف أنحاء العالم.

ولعل ما يزيد الأمر فجاعةً، أن هذا الانحراف لم يتوقف عند حدود استقدام الراقصين والفنانين، بل تجاوزه إلى تعد صريح على الرموز الدينية، صور الكعبة الشريفة باتت تستحضر في تلك الحفلات وحولها يطوف راقصون شبه عراة، في مشهد مبتذل، يختلط العري بالمقدس، ويدوس الانحلال على حرمته بلا رادع، والأدهى من ذلك، تلك الفقرات التي تطلق فيها دعوات تمزج بين الكفر والإساءة، حَيثُ تشبه الذات الإلهية بما لا يليق بجلالها، وتثار مفاهيم تدعو للسجود لآلهة مزعومة، في تجاوز لا يحتمل من الإهانة للمعتقدات الإسلامية، وكأننا أمام محاولة ممنهجة لتحطيم المقدسات، يستهزأ بالله سبحانه وتعالى علانيةً، وتروج مفاهيم مغلوطة تصور الكعبة مكانًا لا يختلف عن أي مسرح للرقص أَو اللهو.

وإن أقسى ما يثقل النفس في هذا المشهد هو ذلك الإصرار العجيب على التعامل مع بيت الله الحرام وكأنه إرث خاص يدار بهوى نظام، يخضعه لمصالحه السياسية ويستنزف قدسيته لتحقيق غايات اقتصادية، وكأنه ليس إلا إرث عائلي، متاع دنيوي يتناقل بين أيدي ملوك آل سعود، منجم يستخرج منه المكاسب، سلعة تستخدم لتلميع صورة سياسية زائلة.

إن الكعبة المشرفة، وقف إلهي خالد، أمانة ربانية عهد بها إلى الأُمَّــة لتكون شاهدة على الإيمان والامتثال لله سبحانه وتعالى؛ إذ إن العبث بحرمتها ليس مُجَـرّد تجاوز، بل هو تعد على الأُمَّــة بأسرها، وجريمة ترتقي إلى التطاول على الأمانة السماوية التي أسبغت عليها ثوب الطهر ووشاح القداسة، بل إن بقائها اليوم تحت قبضة نظام يسخر قدسيتها في سبيل أهداف دنيوية ومكاسب زائلة، هو جرح غائر في جسد الأُمَّــة الإسلامية، وخيانة لأمانة ربانية حملتها الأجيال بدموعها وصلواتها.

أيليق بهذا المكان الطاهر، الذي تتجه إليه قلوب المسلمين وأفئدتهم في كُـلّ صلاة، أن يدنس بتجار الدنيا ولهو السلطة؟ أما آن الأوان أن تصدح أصوات الأُمَّــة، أن ترتفع كلماتها كنبضٍ ثائر، تطالب باستعادة حقها في حماية بيت الله من كُـلّ يد ملوثة بالمصالح الزائفة؟ ألا يجب على المسلمين جميعًا أن ينهضوا لتحمل مسؤولياتهم، ليضعوا حداً لهذا الانحراف الذي يهدّد قدسية الحرم الشريف، ألا يجب تأسيس هيئة جامعة تنضوي تحت لوائها شعوبها ومذاهبها كافة، هيئة تعنى بإدارة شؤون أقدس بقاع الأرض، تحفظ لهذا المكان مكانته، وتعيد للأمانة معناها، وللقداسة حقها.