صمود وانتصار

“أمريكا اللاتينية” بين سراب الوعود وحقائق الأطماع الأمريكية! البرازيل مثالاً (2-2)

الصمود||تقرير||

تستمر قوى الهيمنة الدولية -وفي مقدمتها الولايات المتحدة- في توظيف أدواتها الاقتصادية والسياسية للسيطرة على البلدان النامية، وخاصة في أمريكا اللاتينية، تتضح هذه الديناميكيات من خلال ما تعرضت له البرازيل بعد انقلاب عام 1964، حيث أدت الفوضى الاقتصادية والديون المتزايدة إلى تهيئة الأرضية لشروط صندوق النقد الدولي القاسية. في ظل غياب قوي سياسية وطنية ذات قاعدة شعبية تتحقق، تعود القوات العسكرية للظهور كسلطة تضمن ما يُسمى “الاستقرار” عبر وسائل قمعية، تهدف في ظاهرها إلى مكافحة الشيوعية، ولكن في واقع الأمر تسعى لحماية مصالح النخبة.

في هذا السياق، تقدم البرازيل أنموذجاً مؤلماً لوضعية مزرية نتجت عن تلك السياسات التدميرية رغم ما تمتلكه من ثروات طبيعية وخصائص اقتصادية تؤهلها لتكون من بين أغنى دول العالم. لكن الواقع يكشف عن معاناة أغلبية الشعب الذي يجد نفسه في ظروف حياة مشابهة لتلك التي يعيشها الفقراء في إثيوبيا أو أدنى من سكان أوروبا الشرقية.

سيأخذ هذا الجزء الثاني من التقرير في الاعتبار الأبعاد الخفية والمخططات الاستراتيجية التي تتبناها الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، وبالتركيز على البرازيل كونها حالة دراسية بارزة، سنستعرض الأهداف المتعددة للاستراتيجية الأمريكية، وكيف تتلاعب واشنطن بمصير الشعوب في سبيل تحقيق مصالحها الخاصة، مع تسليط الضوء على تداعيات هذه الأهداف على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبرازيل وشعوب المنطقة.

أهداف الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية

بقراءة الأبعاد الخفية والمخططات الاستراتيجية التي تتبناها الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، مع التركيز على البرازيل كحالة دراسية بارزة؛ تُظهر أهداف الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية بوضوح كيفية تعاطي واشنطن مع هذه المنطقة كأدوات في لعبة كبيرة من السيطرة الاقتصادية والسياسية. ويمكن تلخيص تعدد أهداف الولايات المتحدة في النقاط الرئيسة الآتية:

  1. إبقاء المنطقة سوقاً مفتوحة لفوائض الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة وللاستثمارات الخاصة: تسعى الولايات المتحدة إلى إبقاء أمريكا اللاتينية سوقًا مفتوحة لفوائض إنتاجها الصناعي، ما يتيح لها تصريف منتجاتها بشكل مستمر. يتضح أن هذا الهدف يعتمد على استغلال ضعف السياسات الاقتصادية الوطنية في هذه الدول.
  2. استغلال احتياطيها الهائل من المواد الخام: تُعَدُّ الموارد الخام في المنطقة غنية ومتنوعة، لذا تسعى واشنطن للاستحواذ على احتياطيات هذه المواد وتوظيفها لصالح الاقتصاد الأمريكي، بغض النظر عن العواقب البيئية والاجتماعية.
  3. منع النزعات القومية الاقتصادية: تشعر الولايات المتحدة بالقلق من نمو النزعات القومية الاقتصادية التي قد تضر بمصالحها. لذا، تعمل على محاربة هذه النزعات، وفي الوقت نفسه تدعم الحكومات التي تتبنى سياسات تتماشى مع استراتيجياتها.
  4. منع أي تطوّر صناعي كبير يمكن أن ينافس الشركات الأمريكية: تسعى لعدم السماح لأي تطور صناعي كبير في المنطقة قد ينافس الشركات الأمريكية الكبرى، ما يضمن استمرار الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على الأسواق.
  5. تنمية البرازيل بالشروط الأمريكية: بالنسبة للبرازيل تشير السياسة الأمريكية إلى أنه لا بأس بتنميتها طالما لا تتعارض هذه التنمية مع الأرباح والهيمنة الأمريكيتين، وطالما استمر ضمان تحويل أرباح كافية للخارج. تعد هذه قاعدة أساسية تحدد توجهات اقتصادية وسياسية معينة.
  6. الزراعة كوسيلة للنفوذ: تشجع الولايات المتحدة التنمية الزراعية شرط أن تتجنب أي برامج قد تُحدث تغييراً جذرياً مثل الإصلاح الزراعي، وتكون مستندة إلى المعدات الزراعية الأمريكية.
  7. ترويج المنتجات الزراعية: تسعى واشنطن إلى خلق أسواق جديدة للمنتجات الزراعية الأمريكية مثل الألبان والقمح، ما يعزز القدرة التنافسية للمنتجات الأمريكية في المنطقة، ومن تشجيع البضائع التي تكمل الإنتاج الأمريكي كالبن والكاكاو والمطاط والجوت.
  8. دعم الرغبات البرازيلية دون خروج عن السيطرة: تُظهر الولايات المتحدة رغبتها في مساعدة البرازيل، لكنها تظل مشروطة بمصالحها، وهذا ما يعكسه تعبير “الطبطبة عليهم قليلاً” الذي يشير إلى الحاجة إلى إنشاء أجواء من الود، بينما تبقى الهيمنة مشروطة وفعالة.

تشير القراءة إلى أن الأهداف الأمريكية في المنطقة لا ترتبط فقط بالحفاظ على سيطرة اقتصادية فحسب، وإنما تعكس استراتيجيات شاملة تهدف إلى توسيع النفوذ حتى في وجه أي مقاومة محلية. هذه الديناميكيات تُظهر كيف تُستخدم الدول كأدوات في سبيل تحقيق مصالح لا تُراعي دائماً الحقوق السيادية للشعوب.

مؤامرة الخصخصة

وبالتالي، كان من المفترض أن فهم هذه المُعطيات يعد خطوة أساسية من شأنها أن تدفع بالسلطات المحلية في البلدان المستضيفة للتدخلات الامريكية نحو الحرص على بناء علاقات جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والعدالة الاقتصادية. إلا أن العكس هو ما فرضته الإرادة الأمريكية! فقد قرّرت الحكومة البرازيلية -برغم المعارضة الشعبية القوية- الشروع بعمليّة “الخصخصة” حسب شروط البنك الدولي. والمعنى الدقيق للخصخصة هو بيع القطاع العام حسب شروط البنك الدولي واستجابةً لخططه في ما يقول إنه “تحرير” الاقتصاد.

وقد شعرت قيادات الشعب البرازيلي السياسية والنقابية –العمالية خصوصاً- بأن هذه “الخصخصة” مؤامرة.

تقوم هذه المؤامرة المُحكمة التي يتبعونها مع كلّ بلد على دور من يُسمّون بـ”رجال الاقتصاد المأجورين” الذين يقومون -عبر الندوات والفضائيات والمقالات والمؤلفات، والمناصب التي يحتلونها في البلد المعني- بإشاعة أنّ شركات القطاع العام غير مُربحة وأنّها مُفلسة وليست قادرة على دفع رواتب منتسبيها، وأنّها عبء على الدولة وعلى الميزانية وعلى كاهل المواطن، وأن بيعها إلى القطاع الخاص يعني تطوّرها وملاحقتها للتطوّرات العلمية الحديثة وتزويدها بأحدث الآلات والمعدات التكنولوجية، كما أنّه يعني تشغيل أيدٍ عاملة ويقضي على البطالة ويضمن تسليم رواتب العاملين فيها في مواعيدها، بالإضافة إلى ما يعنيه من إغراق للسوق بالسلع.

لكن ما هي الطريقة الخبيثة التي يتبعها خبراء البنك الدولي والتكنوقراط المرتبطين به وخصوصاً رجال الاقتصاد المأجورين؟ إنّه الطَرْق المستمر على تخلّف القطاع العام، وعلى شطارة القطاع الخاص، وعلى ضرورة بيع شركات القطاع العام، مع رسم صورة زاهية ومتعالية للقطاع الخاص والشركات الأجنبية –الأمريكية خصوصا– كـ “منقذ” يحمل التطوّر والرفاهية.

لكن ما الذي يفعلونه لتحقيق أفظع الأرباح من هذا الهدف–الشراء بأرخص الأسعار والبيع بأغلى الأسعار- كما هو معروف عن السلوك الاقتصادي الرأسمالي؟

حسب كتاب (اعترافات رجل اقتصاد مأجور) الشهير لـ”جان بركنس. الخبير السابق في البنك الدولي”، فإنّهم يشكّلون لجنة لتقييم كل شركة من شركات القطاع العام من “خبراء” اقتصادٍ هم في الحقيقة خبراء اقتصاد مأجورين أو يحيلون عمليّة التقييم لشركة حسابات اقتصادية خاصّة دوليّة “مشهورة”.

 تقوم هذه اللجنة أو تلك الشركة بتصوير شركة القطاع العام المطلوب تقييمها صورة سيّئة على أنها شركة فاشلة توشك على الإفلاس وليس لها ربحية، وتقترح بيعها وتضع “سعراً” للبيع زهيداً جداً! ثم تُسرِّب خبر التقييم والسعر بصورة سرّية –وبمالغ رِشاً كبيرة– للشركات الأمريكية والأجنبية متعددة الجنسيات التي تخطط لشراء تلك الشركة منذ سنوات، فتسرع لتقديم العروض وشراء الشركة.

البرازيل مثالاً

قرّرت الحكومة البرازيلية بيع شركة “فال” التي تسيطر على مصادر واسعة من اليورانيوم والحديد ومعادن أخرى، وشركات صناعية، ووسائل مواصلات، بما في ذلك تكنولوجيا متطورة وتحقق أرباحا طائلة (أي أنها ليست خاسرة كما اشاع خبراء الاقتصاد المأجورون)، بلغ دخلها في عام 1996 أكثر من 5 مليارات دولار، كما أن آفاق المستقبل بالنسبة لها ممتازة. وهي واحدة من ست شركات أميركية لاتينية مُدرجة في قائمة الخمسمائة شركة الأكثر ربحا في العالم. قدرت الحكومة ثمنها أقل كثيرا من قيمتها الحقيقية. قالت الحكومة إنها اعتمدت على تحليل “مستقل” قامت به شركة “ميريل لنش” التي “صادف” أنها مرتبطة بالشركة العملاقة الأنجلو–أمريكية التي اشترت هذه الشركة! التي هي المكون المهم من مكونات الاقتصاد البرازيلي.

معجزة أم مأساة؟

في تاريخ “أمركة” البرازيل الذي امتُدح كثيراً يقول جيرالد هاينز: “منذ 1945، استخدمت الولايات المتحدة البرازيل كحقل تجارب للأساليب العلمية الحديثة للتنمية الصناعية المبنية على أسس رأسمالية متينة. أصبحت البرازيل –كما تذكر صحافة رجال المال، تحت نير الحكم العسكري- محبوبة مجتمع رجال الأعمال العالمي في أمريكا اللاتينية”.

وفي نفس الوقت، يُذكر في تقرير البنك الدولي أن ثلثي السكان لا يجدون من الطعام ما يكفي لنشاطهم الجسدي العادي. ويصفون عام 1989 بأنه عام “نجاح سياسات أمريكا في البرازيل”، وأنها “قصة نجاح أمريكي حقيقي”! فعلا، كانت سنة ذهبية بالنسبة لعالم رجال الأعمال حيث زادت الأرباح ثلاثة أضعاف عمّا كانت عليه عام 1988، بينما انخفضت أجور عمال الصناعة –وهي من أكثر الأجور تدنيا في العالم– بنسبة 20% أخرى، وأدرج تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية البرازيل بمستوى ألبانيا.

مع تولّي التكنوقراطيين لإدارة السياسة الاقتصادية عام 1967 بدأت ما سُميت بـ (المعجزة الاقتصادية البرازيلية) بنمو غير مسبوق في الاقتصاد. ولكن معها خُفِّضت الأجور، وازدادت الرقابة، وألغي استقلال القضاء، وألغيت المناهج التي تروّج للنزعة الوطنية.

في 1970، أُعلن أن القمع سيكون قاسياً، وصار التعذيب طقساً مُروّعاً وذبحاً محسوباً للجسد والروح، تعذيب الأطفال واغتصاب الزوجات جماعياً أمام أسرهن. قَدمت حمّى التعذيب تحذيرا واضحا لكل من يحمل أفكارا يسارية، بل لكل من تسوّل له نفسه الاعتراض على نتائج “المعجزة”!.

صارت البرازيل جذّابة من جديد لمستثمري القطاع الخاص. حصل توسع سريع في الناتج القومي الخام والاستثمار الأجنبي، وحصل تحسّن درامي وهائل من الناحية التجارية، ومثّل حقنة قويّة في ذراع الجنرالات وتكنوقراطيتهم، فقد التزموا -بقوة- بالمبدأ القائل: (إن الردّ الحقيقي على الفقر والتوزيع غير العادل للدخل إنما هو النمو الاقتصادي السريع بحيث تزيد الكعكة الاقتصادية بمجملها).

تراوحت معدلات النمو بين 1965- 1981 في حدود لم تتجاوز الحكم البرلماني 1947 – 1964. بالكاد زادت معدلات الادخار الاجتماعي خلال (سنوات المعجزة). غصّت الأسواق بالسلع الكمالية من أجل الأغنياء. صحيح أن البرازيل صارت الأسرع نموا بين أسواق التصدير الصناعي ما وراء البحار، لكن السكّان -في قمة سنوات المعجزة 1975- كان 68% منهم يحصلون على الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للنشاط الجسدي، 58% من الأطفال يعانون من سوء التغذية، مصاريف وزارة الصحة صارت أقل مما في 1965. زار “هنتنغتون” البرازيل عام 1972 وحثّ على تخفيف الإرهاب الفاشي!

في الثمانينات، انفجرت فقاعة “المعجزة” الاقتصادية العالمية المعروفة، حيث تراجعت ظروف التجارة، وذهبت بدعائم من يمسكون بالسوط وكيس النقود معاً.

بعد أربع سنوات من التدهور الاقتصادي الجاد، عاد الاقتصاد يتعافى، والفضل إلى التصنيع الذي حلّ محل الاستيراد الذي فرضه البنك الدولي. اضطر الجنرالات إلى مغادرة المسرح تاركين أمر إدارة الحطام الاقتصادي والاجتماعي لحكومة مدنية يديرها التكنوقراط.

“معجزة” البرازيل تستند إلى وجود (برازيلَين مختلفتين تماماً)! فعندما بلغت المعجزة ذروتها في السبعينيات كان النزاع الأساسي في البرازيل بين 1% وربما 5% من السكان وهم النخبة، و80% ممن تُركوا خارج النموذج البرازيلي للتنمية. استفادت الأولى، وغاصت الثانية في بحر البؤس. الحكومة البرازيلية نفسها -في عام 1986- قالت: برغم التبجّح بأن البرازيل هي الاقتصاد الثامن في العالم الغربي، فإنها كانت في الوقت نفسه تُصنف مع أضعف دول أفريقيا وآسيا تطوّرا عندما تكون المقارنة وفق مؤشرات الأحوال الاجتماعية، وهذا بعد عقدين من إطلاق يد التكنوقراط. وفي تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (التعليم والصحّة.. إلخ) صُنّفت البرازيل في المرتبة (80) بعد ألبانيا وتايلاند.

وفي تشرين الأول 1990، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة أن أكثر من 40% من السكان (أي 52 مليون إنسان) يعانون الجوع. وتقدر وزارة الصحة البرازيلية أن مئات الآلاف من الاطفال يموتون جوعا كل عام، أما النظام التعليمي فيقف مباشرة فوق بنغلادش حسب تقرير اليونسكو لعام 1990.

أمّا تقرير لجنة (مراقبة أمريكا) لعام 1992، فقد أعلن أن البرازيل تعجز عن تأمين عيشٍ مقبول لسكانها البالغين 182 مليونا بحيث أن ثلثهم مصابون بسوء التغذية. ينتشر الجوع والمرض بشكل مخيف. التشغيل العبودي للعمال المتعاقدين الذين يُعاملون بكل وحشية أو يُقتلون بكل بساطة إذا هربوا قبل تسديد ديونهم عملاً.

تقرير الكنيسة الكاثوليكية 1992 وجد (4000) عامل مُستعبد يستخرجون الفحم النباتي في مشروع مُموّل من الحكومة العسكرية، يعملون 16 ساعة يومياً بلا أجر يُضرَبون ويُعذّبون، بل يُقتلون أحيانا. يملك 1% من المزارعين نصف الأراضي الزراعية، والتركيز على المحاصيل التصديرية حسب وصفات السادة الأجانب.

المالكون يستدعون فرقاً مسلحة أو قوات الشرطة لحرق المنازل والمواشي واغتيال النقابيين والقساوسة والممرضات والمحامين الذي يحاولون الدفاع عن الفلاحين، ولدفع الفلاحين نحو مناطق الأكواخ أو مناطق الأمازون حيث يُتهمون بحجة أنهم يحرقون الغابة لأنهم ينظّفون قطعة صغيرة لزراعتها والبقاء أحياء.

يصف الباحثون البرازيليون سكّانَ تلك المنطقة بأنهم جنس جديد (أقزام) يملكون 40% من الامكانات العقلية البشرية العادية بسبب سوء التغذية في بلاد أرضها أكثر خصوبة في العالم، ولكن تمتلكها المزارع الكبرى التي تنتج المحاصيل التصديرية النقدية.

صارت البرازيل مركزاً لإنجازات عالمية مثل عبودية الأطفال، حيث يعمل سبعة ملايين طفل عبيداً أو مومسات، ويُستغلون ويُدفعون للعمل بما يفوق طاقاتهم، ويُحرمون من التعليم والصحة حسب منظمة العمل الدولية. الاطفال الأوفر حظّاً يعملون لصالح مروّجي المخدّرات مقابل مواد لاصقة يستنشقونها لجعل الجوع يذهب عنهم.

تستحق البرازيل جائزة في التعذيب، وقتل الأطفال المُشردين على يد قوات الأمن (عملية إبادة الشبان) حسب تعبير مديرية العدل في ريو دي جانيرو.

رصدت لجنة برلمانية (15) فرقة من فرق الموت في ريو دي جانيرو وحدها، وأنهم من الشرطة ويموّلها التجار. يتم العثور على جثث من تقتلهم هذه الفرق خارج الأحياء السكنية، وتكون أيديهم مُوْثَقة وتبدو عليها آثار التعذيب وثقوب الرصاص، أما الفتيات المشرّدات فيُجبرن على العمل كمومسات. سجّل معهد الطب الشرعي مقتل (427) طفلا في ريو وحدها خلال العشرة أشهر الأولى عام 1991، قُتِل معظمهم على يد فرق الموت. وأفادت لجنة برلمانية أن (7000) طفل قُتلوا خلال السنوات الأربع الماضية.

 إنها ضريبة (الطرق العلمية الحديثة في التنمية المستندة -بقوة- على الرأسمالية) كما تتبجح الدوائر الاقتصادية الأمريكية. المعنى الحقيقي لـ (المعجزة الاقتصادية) هو أرباح كبرى للمستثمرين الأجانب وحياة مرفّهة للنخبة المحلية، وزيادة البؤس لعموم الناس.

أفادت تقارير وزارة التعليم البرازيلية أن أكثر من ثلث ميزانيتها يذهب في إطعام التلاميذ، لأنّ أغلبهم لا يحصلون في طعامهم إلّا على تلك الوجبة المجّانية. وطبقا لمجلة (الجنوب) تفوّقت البرازيل في عدد وفيات الاطفال على سريلانكا. يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر، ويشحذ ويشم الغراء (الصمغ/ السيكوتين) سبعة ملايين طفل، تركهم آباؤهم في الشوارع. يسكن الملايين في أكواخ متهالكة في أحياء مُعدمة، أو ينامون تحت الجسور.

 تلك هي البرازيل، واحدة من أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية، والحال شبيه بذلك في كل دول أمريكا اللاتينية.

أما في أمريكا الوسطى، فقد ارتفع عدد القتلى بمساندة القوات الأمريكية إلى (200,000) كما سنرى ذلك قريباً.

بينما كانت (المعجزة) في طريقها للانهيار، كانت إنجازات البرازيل تُعلن في الصحافة والتلفاز على أنها إظهار لروائع رأسمالية السوق الحرة، وأنها النتيجة السعيدة للمعونة والإرشاد الأمريكيين. أمّا بعد الانهيار فقد اعتُبرت البرازيل مثالاً على الفشل في اتباع النصائح الأمريكية “الخلّاقة” والانحراف عن العقيدة الاقتصادية الصحيحة.

معجزة الرئيس (لولا دا سيلفا) و”طيحان حظّ” الرؤساء العرب

لم يحصل أي انتخاب علني شعبي خارج الكونغرس لرئيس البرازيل إلا في عام 1989، وبعد سلسلة من الترشيحات والفشل أرادت منها الولايات المتحدة ترتيب (قصة نجاح جديدة للرأسمالية ذات النمط الأمريكي)، حصل العكس وتفاقم الانهيار، حيث انخفض النمو الاقتصادي من 5% إلى 3%، وتراجع الدخل الفردي 6% والانفاق على الصحة 32% وعلى التعليم أكثر من ذلك. إلى أن  انتُخِب السيّد (لولا دا سيلفا) رئيساً للجمهورية في أكتوبر 2002م، بعد أن حصل على أكثر من 51 مليون صوت بنسبة (62%) من اجمالي عدد الأصوات ليصبح لولا دا سيلفا (صبّاغ الأحذية، وعامل الحديد السابق، ومؤسّس ورئيس حزب العمال الحالي) أوّل رئيس يساري اشتراكي مُنتخب منذ إنشاء جمهورية البرازيل في 15 من نوفمبر عام 1889م.

لُقِّب دا سيلفا بـ (بطل الفقراء)، وفاز بدورة ثانية عام 2006 ليترك الرئاسة ويرفض تعديل الدستور ليحصل على رئاسة ثالثة. في عهد هذا الرجل حصل النهوض التنموي الحقيقي، وتنفس الناس الصعداء بعد أن كانت البرازيل على شفا الهاوية. وهي الآن تتمتع بفائض يزيد عن 200 مليار دولار، واصبحت صاحبة أقل نسبة غلاء بين دول العالم الثالث، وذلك بفضل مجهودات دا سيلفا.

نجح في توفير ما يقارب 60 مليار دولار خصصها لمساعدة الأسر الفقيرة والقضاء على ظاهرة توارث الفقر. وبفضل مجهودات هذا الرئيس أصبحت البرازيل من ضمن قائمة الدول المؤثرة في الخمس عشرة سنة المقبلة. وهناك توقّعات بأنه بحلول عام 2040م سيكون اقتصاد البرازيل أكبر من اقتصاد ألمانيا واليابان معاً، نظراً لمقوّماتها الاقتصادية الضخمة في مجالات الزراعة والصناعة والاكتشافات البترولية الجديدة.

لقد نجح الرئيس لولا دا سيلفا في تطبيق برنامج “بولسا فاملى”؛ وهو برنامج لتحسين الأوضاع الاجتماعية، حيث حُسِّنَتْ أوضاع ثمانية ملايين أسرة فقيرة، وذلك بتوفير دخل بحد أدنى 160 دولاراً شهرياً. ولقد بلغت تكلفة هذا البرنامج أكثر من 80 مليار ريال برازيلي. وتم تمويل هذا البرنامج من خلال الضرائب التصاعدية التي تمثل أكثر من 40 %. واشترط الرئيس على كل الأسر المستفيدة من هذا البرنامج أن ينتظم أبناؤهم في الدراسة. والهدف الأساسي من تطبيق هذا المشروع هو تخفيف وطأة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية.

بعد أن انتهت فترته الرئاسية، قال: إنه لا يمكن تعديل الدستور ليتمكن من أن يترشح للمرة الثالثة.

وفي تصريح لمجلة برازيلية قال:(ناضلتُ قبل عشرين سنة، ودخلتُ السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية. كيف أسمح لنفسي أن أفعل ذلك الآن؟).

ملاحظة:

احتوت الحلقتان على معلومات حملت في ثناياها بعض الآراء والتحليلات الشخصية، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية: ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي، كتاب “أمريكا المُستبدة” لمايكل موردانت، “التاريخ السري للإمبراطورية الأمريكية” لجاك بركنس، “أمريكا والعالم” د. رأفت الشيخ، “تاريخ الولايات المتحدة” د. محمود النيرب، “الولايات المتحدة طليعة الانحطاط” لروجيه غارودي، “الفردوس الأرضي” د. عبد الوهاب المسيري، وغيرها الكثير.