صمود وانتصار

الموقف العربي .. ضمير غائب في زمن العدوان

الصمود||تقرير||يحيى الربيعي 

لطالما كانت العناوين البراقة، مثل “الحضن العربي” و”العقيدة والشرعية” حاضرة في الأذهان وغمرت ذاكرة العالم كوسيلة لتعبئة الجهود من أجل قضايا عديدة. ولأجل هذه الشعارات، جُهزت الجيوش، وفتحت مخازن الأسلحة، وتم استحضار الجامعة العربية، وارتفعت أصوات العلماء والخطباء والكتّاب والإعلاميين. عُقدت الندوات واللقاءات والمؤتمرات، وأُديرت طاولات النقاش والحوار في محاولة لـ”توحيد الصفوف”. لكن، ما هي النتيجة الحقيقية لهذه الجهود؟.
ألم تُدمر مقدرات اليمن تحت غطاء تلك العناوين الرنانة؟ ألم يُطِح شتاء الربيع الإرهابي بسوريا، ليُجهز مؤخراً على قدراتها العسكرية بواسطة آلة الحرب الصهيونية؟ ألم تعانِ ليبيا من ويلات النزاعات الداخلية؟ ألم يُحاصر لبنان، ويُقسّم السودان، ويُضعف العراق؟
في خضم هذا المشهد المعقد، يجدر التساؤل: ماذا يحصل مع غزة؟ ماذا عن فلسطين، الدولة العربية؟ ماذا عن القدس، عاصمة فلسطين؟ ماذا عن الأقصى الشريف، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ هذه المآسي تشكل الجرح النازف الذي لم يندمل بعد، وهي تمثل قضية مركزية لا يمكن تجاهلها.
أين العرب من القدس ومن المآسي التي تحل بالشعب الفلسطيني؟ لماذا يبقى الصمت هو السمة الغالبة أمام الجرائم الفظيعة التي يرتكبها العدو الإسرائيلي؟ أليس جديراً بالأمة العربية والإسلامية -استناداً إلى الواجب الذي تفرضه روابط العقيدة الإسلامية- أن تصطف مع الحق وأن تتحد لإنقاذ الشعب الفلسطيني؟ وبصرف النظر عن واجب الجهاد، أليس من الواجب الإنساني على الأمة أن تهبّ لنجدتهم، خاصةً أطفال غزة ونساؤها وشيوخها، وتقديم الإغاثة الإنسانية في هذه الأوقات العصيبة؟.
إن الصمت لن يُجدي نفعاً طوال فترة طويلة، كانت المواقف الرمزية وحدها هي ما تعبر عن مشاعر. فضلاً عن أن الجهاد أصبح يُصنف على أنه إرهاب، والإرهاب والإجرام باتا في واقع الصراع يُمثلان الحقوق المزعومة، إن لم يصبحا -في واقع الحال- هما من يمتلك حق ما يسمى بـ “الدفاع عن النفس”، بل إن التاريخ يُكتب -حالياً- في منحى يعكس الانحياز ضد الحق والحقيقة. فهل ستحقق في ضمائر الأمة التغيير، أم ستظل قضايا الأمة معلقة دون حلول في زمن تتلاشى فيه المبادئ الإنسانية تحت وطأة الصمت؟

غزة تُذبح! النداء للضمير العربي والإسلامي

غزة تُذبح من الوريد إلى الوريد، ولعل إدراك حجم التخاذل العربي والإسلامي تجاه المأساة في غزة يتطلب الوقوف ملياً على فظاعة الجرائم التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني، عسى أن يدرك المتخاذلون سوأة أعمالهم إن بقي فيهم ذرة من إباء.
على مدى خمسة عشر شهراً، يواصل العدو الإسرائيلي إجرامه الهمجي ووحشيته بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. ووفقاً لوزارة الصحة في غزة، فإن جرائم العدوان لم تتوقف، حيث سجلت اليوم ثلاث مجازر  ضد العائلات في قطاع غزة وصل منها للمستشفيات 38 شهيدا و203 إصابة خلال الـ (24 ساعة الماضية) لترتفع حصيلة الإبادة الجماعية الصهيونية في القطاع إلى 45,097 شهيداً و107,244 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.

كما جعل العدو الصهيوني من المستشفيات والمراكز الصحية أهدافاً رئيسية لعملياته العسكرية، متجاوزاً كل المعايير والقوانين الدولية التي تُلزِم بحماية المؤسسات الطبية. يتغذى هذا الإجرام على الصمت الأممي والغطاء السياسي الأمريكي، حيث شهد مستشفى كمال عدوان هجوماً مباشراً، يُستهدف وكأنه قاعدة عسكرية. استخدم العدو الإسرائيلي في هذا الهجوم الطائرات المسيّرة والأسلحة البرية، نفذ سلسلة من الغارات المكثفة ونيران كثيفة بشكل مباشر على المستشفى، استهدف محطة الأوكسجين بشكل متعمد، وهو الأمر الذي أدى إلى وفاة الأطفال الخُدَّج والمرضى في غرف العناية المركزة. إضافةً إلى ذلك، تم اعتقال عدد من الكوادر الطبية، حيث أُجبر الطاقم الطبي الإندونيسي المتخصص في الجراحة الحرجة على المغادرة.

خياران لا يليقان بالأمة

ولا تقتصر جريمة العدو الإسرائيلي على الاستهداف المباشر فحسب، شمل إجرامُه أيضاً الحرمان الممنهج من الخدمات الأساسية. الشعب الفلسطيني في غزة يعاني العديد من الأزمات نتيجة تصرفات الاحتلال، بما في ذلك الحظر على دخول الغذاء والدواء إلى القطاع. وهذا الإجراء الإجرامي أسفر عن آلاف الوفيات بين المرضى الذين لم تتوفر لهم الأدوية اللازمة لعلاج الأمراض التي يمكن معالجتها.
إن هذه الجرائم والممارسات الهمجية يجب أن تفتح أعين الجميع -وخاصة العالم العربي والإسلامي- لإدراك المسؤولية الملقاة على عاتقهم. إن الصمت والاستسلام ليسا خيارين يليقان بالأمة، بل على العكس من ذلك، يجب أن يرتفع صوتنا جميعا كوننا أمة واحدة، تقف إلى جانب الحق، تدافع عن القضايا العادلة، خصوصاً تلك التي تعكس معاناة أبناء غزة وآلامهم. يجب على الأمة أن تقف في وجه الاحتلال بمشروعية وجوب إحقاق الحق للشعب الفلسطيني ودحر الباطل الإسرائيلي.
إن الوقت قد حان لتحرك فعلي يعبّر عن ضمير الأمة، وعمل جماعي يفسح المجال لإنهاء هذه المأساة ورفع المعاناة عن كاهل الشعب الفلسطيني. فهذا هو الداعي المستحق فعلا أن تستجيب له كل جوارح الأمة، وهو الحق الذي يجب أن تُسخّر في سبيل احقاقه قدرات الأمة وإمكانياتها ومخازن أسلحتها وخزائن أموالها وتقنياتها العسكرية وتكتيكات جيوشها.

معاناة الجرحى: مأساة إنسانية تتجلى في غزة

تُعاني غزة من أهوال الحرب، ولا تقتصر المعاناة على الشهداء، فهناك أيضاً معاناة الآلاف من الجرحى الذين يحتاجون إلى العلاج. يُقدر عدد المصابين بحوالي خمسة عشر ألف مصاب بحاجة إلى تلقي العلاج في الخارج، لكن العدو الإسرائيلي لا يفتح المجال أمامهم للخروج، ما يزيد من تعقيد الوضع. ومع برد الشتاء القارس، يعاني الكثير من الطاعنين في السن والأطفال والنساء من الأمراض وسوء التغذية، حيث بات الجميع في غزة ضحايا لهذا الحصار القاسي.
يستخدم العدو الإسرائيلي سياسة التجويع وسيلةً للإبادة، ما يفاقم معاناة الفلسطينيين. في ظل المجاعة الشديدة، أصبح النازحون في قطاع غزة يعتمدون على أعلاف الحيوانات لتلبية احتياجاتهم الضرورية، والعديد منهم يضطر للبحث في القمامات عن أقواتهم، ما يؤدي إلى تفشي الأمراض وحالات سوء التغذية بين الجميع. إن ما يتوفر من الغذاء يمثل الحد الأدنى، ويعاني الأشخاص من نقص حاد في المواد الغذائية والدوائية الأساسية، ما يتسبب في معاناة غير مسبوقة.

اجتياح جباليا: مأساة إنسانية متزايدة

تشهد مدينة جباليا شمالي غزة اجتياحاً قاسياً من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهو الثالث منذ بداية العدوان على القطاع، حيث يسعى الاحتلال إلى إفراغ المدينة بالكامل من سكانها. تشير شهادات السكان إلى أن حوالي 95% من سكان جباليا اضطروا إلى مغادرة منازلهم، فيما يبقى من تبقى محاصراً من القوات والآليات العسكرية الإسرائيلية، ويفتقر إلى أدنى مقومات الحياة.
في ظل هذا الوضع الكارثي، يروي الشاب إسماعيل وجارُه علي ورفيقه حسين أنهم يفضلون البقاء في منازلهم رغم الخطر المحدق بهم، حيث يواجهون القصف المستمر ويشعرون بخوف دائم من الموت. يقولون إنهم لا يستطيعون تحمل مرارة النزوح ومعاناة الحياة في مراكز الإيواء، خاصة مع انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء.
توضح شهاداتهم أن مؤونتهم الأساسية من الطعام تقترب من النفاد، حيث يعتمدون على بعض المعلبات والمعكرونة والعدس والأرز التي حصلوا عليها كمعونات قبل بدء العدوان في 5 أكتوبر 2024.

لقد تعرضت جباليا لاجتياحات سابقة، حيث شهدت الاجتياح الأول في ديسمبر 2023 تلاه اجتياح ثانٍ في مايو 2024. ولكن الهجوم الحالي هو الأكثر قسوة، مع تحركات متزايدة لتدمير المباني المدنية، ما أدى إلى تهجير آلاف الأسر وتدمير نسبة 90% من البنية التحتية.
في ظل واقع مرير، يبعث سكان غزة -ومن بينهم زياد مصطفى الخمسيني الذي أنقذ عائلته من قذيفة سقطت على منزلهم- صرخة للعالم ليتحرك ويقوم بنقل معاناتهم. فهو يشير إلى أنه لا توجد أي استجابة أو اهتمام دولي بمأساتهم، ما يزيد من إحساسهم بالعزلة واليأس.
ويضيف زياد أن الاحتلال يمارس ضغوطاً مستمرة على السكان بالنزوح والإخلاء، معتبراً أنه يسعى فعلياً إلى تطبيق “خطة الجنرالات” الهادفة لإفراغ شمال القطاع بشكل كامل. ورغم نفي جيش الاحتلال لذلك، إلا أن الوقائع تشير إلى أن الهدف من ذلك هو تحقيق سياسة التطهير العرقي.

جباليا: الهجوم متزايد والمقاومة أشرس

تواجه جباليا في شمال غزة هجمة شرسة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، ويدلل ذلك على قسوة العدوان الذي نُفِّذَ على سكان المدينة. ومع تصاعد الهجوم، تقوم الفصائل الفلسطينية -وعلى رأسها “كتائب عز الدين القسام”- بعمليات مقاومة فعالة تتضمن استهداف الآليات العسكرية الإسرائيلية بالقذائف، وتفجير مواقع يجتمع فيها الجنود الصهاينة، بالإضافة إلى قنص الجنود واستهداف تجمعاتهم العسكرية.
اعترف العدو الإسرائيلي  -في تقارير متكررة- بخسائره الكبيرة، حيث قُتل 35 جندياً وأصيب المئات، وتم تدمير عدد من آلياته العسكرية في المواجهات. إلا أن مشهد النزوح الجماعي طغى على تفاصيل المعارك، حيث يُجبر السكان على مغادرة منازلهم بسبب التهديدات المتزايدة بالقصف والتدمير.
وفق الإحصائيات، كان عدد سكان شمال غزة حوالي 450 ألف نسمة، ولكن بعد استمرار الهجوم لم يتبقى في جباليا سوى 15 – 20 ألف شخص، يعانون من نقص حاد في الغذاء والمياه، حيث مرّ عليهم أكثر من 70 يوماً دون إدخال أي مواد غذائية أو مياه صالحة للشرب. وتُظهر التقارير أن القصف المكثف جعلهم معرضين للموت في أية لحظة.

تدمير البنية التحتية والقطاع الصحي

في إطار استهداف المدنيين، قام جيش الاحتلال بنسف الأحياء السكنية ، ما تسبب في تدمير أكثر من 90% من الأبنية في جباليا. تُعَدُّ جباليا من أكبر مخيمات اللاجئين في القطاع، حيث أُنشِأت في عام 1948 بعد تهجير اللاجئين الفلسطينيين.
في ظل هذه الظروف القاسية، يبقى سكان جباليا في انتظار تلبية صرخات النجدة من العالم، حيث أن معاناتهم تتفاقم يوماً بعد يوم، والحل يبدو بعيداً في ظل تعنت الاحتلال وغياب الدعم المطلوب. إن ما يجري يمثل مأساة إنسانية في أبشع صورها، ما يستدعي تفعيل الجهود الدولية للضغط على الاحتلال لوقف العدوان وتقديم العون اللازم للمتضررين.

جرائم العدو في الضفة الغربية

ولم تسلم الضفة الغربية من نيران العدو، حيث يستمر تدمير البيوت وتجريف الأراضي، مع مصادرة العديد من الأراضي لصالح المستوطنات الصهيونية. يمارس الاحتلال جرائم القتل والاختطاف بشكل يومي، وتطول اليد الإسرائيلية في كل مكان، ما يتسبب في انعدام الأمان وتدهور الأوضاع الإنسانية.
ومؤخراً -للأسف- شهدنا انخراط عناصر من السلطة الفلسطينية الأمنية في ارتكاب جرائم القتل بحق المواطنين والمجاهدين لخدمة الأجندة الإسرائيلية. تعمل هذه العناصر بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، متجاهلة الواجبات الوطنية والأخلاقية، ما يثير قلق الكثيرين حول مدى الالتزام بالحقوق الفلسطينية في ظل هذا التنسيق.

الضمير العربي وعي مفقود

وسط كل هذه المعاناة، يبقى التخاذل العربي والإسلامي جلياً. تُظهر المشاهد اليومية المأساوية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني مظلومية كبيرة، لكن -للأسف- أصبحت تلك المشاهد اعتيادية لدى كثيرين. المآسي التي يجب أن تثير مشاعر الغضب والتجمّع العربي والإسلامي لا تحرك ساكناً في الكثير من الضمائر الميتة. تنسى الأمم الواجبات الإنسانية والدينية والأخلاقية تحت وطأة التكرار، وتُمحى جميع العناوين التي كانت تُشعل الحماسة مثل “العروبة”، و”العقيدة”، و”الجهاد”، متجاهلة أن تلك العناوين يجب أن تستعيد حيويتها عندما يكون الحديث عن فلسطين.
إن انهيار الوعي وغياب الحركة الفعالة لدعم الشعب الفلسطيني يمثّلان أكبر المعيقات أمام تحقيق العدالة لأصحاب القضية، ما لم يتحرك المسلمون والعرب تحركاً جماعياً ويستعيدوا هذه الإيجابية. إلى متى ستظل معاناة غزة مستمرة، وإلى متى سيمتد صمت العالم تجاه مأساة تُدمي القلوب؟ سؤال في محطة انتظار طويلة الأمد!