صمود وانتصار

إسرائيل بمواجهة اليمن: لا خيارات ناجعة بمتناول اليد

يحضر على طاولة القرار في تل أبيب سؤال حول كيفية مواجهة تهديدات حركة «أنصار الله» في اليمن، فيما تفيد أكثر الإجابات تداولاً بأنّ الردع الإسرائيلي والغربي ليس فعّالاً؛ بالنظر إلى أن الهجمات العسكرية التي شُنّت إلى الآن، سواء الأميركية – البريطانية أو تلك الإسرائيلية، لا يبدو أنها قادرة على دفع الحركة إلى الانكفاء. وكانت صنعاء قد اتّخذت قراراً مبكراً بفتح جبهة مسانِدة لغزة، وهو ما جرى تنفيذه على مراحل ونبضات، بدءاً من منع السفن التجارية المتوجهة إلى موانئ إسرائيل من عبور مضيق باب المندب (البوابة الجنوبية للبحر الأحمر التي تربط إسرائيل بآسيا)، مروراً باعتراض السفن المتوجهة إلى إسرائيل، وإنْ لم تسلك المضيق، أي التي تبحر في خليج عدن وبحر العرب والمحيط عموماً، وصولاً إلى استهداف تل أبيب بالطائرات المسيّرة الانقضاضية والصواريخ الباليستية على اختلافها.
في مقابل ذلك، فضّلت إسرائيل في البداية الاعتماد على الأميركيين في التعامل مع التهديد اليمني، لاعتبارات ترتبط بمحدودية قدرتها الذاتية في زمن الحرب، وقصورها عن مواجهة تهديدات بعيدة، وخاصةً وسط غياب الموارد المخصّصة لمواجهات مستمرّة عن بعد، ترى تل أبيب أنها ضرورية لتحقيق النتيجة المطلوبة. إلّا أن الولايات المتحدة التي استعرضت القوّة وهدّدت بها ابتداءً، لم تتجاوز قواعد الاشتباك التكتيكية، عبر توجيه ضربات إلى اليمن مقابل أيّ استهداف للتجارة والإمداد من إسرائيل وإليها. ومردّ هذا السلوك أن إدارة الرئيس جو بايدن تخشى من أنّ رفع مستوى التدخُّل العسكري في اليمن وتدفيعه أثماناً معتدّاً بها، سيجرّان إلى مواجهة طويلة هي عملية استنساخ لحروب ماضية لا تريد واشنطن إعادة استيلادها.
وعلى رغم أن القادة الإسرائيليين يتبجّحون بالنجاحات التي تحقّقت عبر الهجمات الثلاث التي شنّها سلاح الجو الإسرائيلي على اليمن، إلّا أن المسلّم به لدى المعلقين وكبار الكتّاب والمراكز البحثية العبرية، هو أن ما جرى لا يردع «أنصار الله»، بل إن ردع الحركة غير ممكن من جانب إسرائيل أو غيرها؛ إذ إنه كلما ارتفعت وتيرة الهجمات، اندفعت صنعاء أكثر إلى مهاجمة تل أبيب، كما إلى مواصلة اعتراض ومنع عبور السفن والحاويات منها وإليها. والواقع أن التهديد اليمني يتشكّل من إصرار قيادة «أنصار الله» على الاستمرار في إسناد غزة، وتعزيز مستوى هذا الإسناد تباعاً، في حال لم توقف إسرائيل حربها على الفلسطينيين. ويقرّ خبراء إسرائيليون بأن الوسائل الناجعة لتحييد ذلك التهديد ليست الضربات المعمول بها حالياً، والتي سيجرّ تصعيدها ردّاً أكثر فاعلية وإيذاء من جانب اليمن، فيما الخسائر التي تتلقّاها صنعاء لن تؤثر كثيراً في تغيير النتيجة، وهو ما قد يكاد يكون مجمَعاً عليه في تل أبيب.

الخسائر التي تتلقّاها صنعاء لن تفيد كثيراً في دفعها إلى الانكفاء

وعليه، ثمة حلول بديلة مطروحة على طاولة البحث الإسرائيلية، لكنها غير مكتملة، من بينها استهداف القيادات اليمنية والوسائل القتالية ومراكز تصنيع السلاح وتخزينه والكوادر ذات الخبرة في التصنيع والإنتاج، مع استهداف ممنهج لمراكز القوّة الاقتصادية والموانئ ومنشآت الطاقة على اختلافها. ويضاف إلى ما تقدّم ضرب صنعاء نفسها كمدينة ثقل لـ«أنصار الله»، على أن ينسحب ذلك على مدينة صعدة نفسها لدلالاتها في الوعي العام اليمني، وبما يمهّد لدفع اليمنيين الذين يعارضون الحركة إلى الزحف في اتجاه الشمال وإسقاط حكومتها، مثلما حدث أخيراً في الساحة السورية.
والواضح في خيار كهذا، أنه لا يهدف إلى ردع «أنصار الله»، لأن الردع وفقاً لمعادلاته الحالية غير فاعل في التأثير في قرار صنعاء، ما يعني أن الحرب الشاملة التي تفضي إلى إسقاط حكومة «أنصار الله» هي الحلّ الوحيد المتاح حالياً. إلّا أن هذه المهمة تبدو صعبة، وربما مستحيلة؛ والأهم أن إسرائيل غير قادرة على مباشرتها ربطاً بقدراتها الذاتية المحدودة، والتي جرى تكوينها لتكون فاعلة ومؤثرة في ساحات غير بعيدة، علماً أن ما يجري الحديث عنه عبرياً إلى الآن هو إعادة استنساخ الحرب السعودية – الإماراتية من جديد في اليمن، بأدوات ووسائل قتالية إسرائيلية. لكن إذا كانت الرياض وأبو ظبي وأتباعهما من الفصائل المعارضة في اليمن لم يستطيعوا تحقيق انتصار عسكري سابقاً، فهل سيتمكّنون من ذلك بدعم إسرائيل؟ إلى الآن، لا إجابة عن هذا السؤال الذي لا يغادر طاولة أصحاب الرأي في تل أبيب.
من جهتهم، يعرب عدد من المعلّقين الإسرائيليين عن الأمل بأن تقارب إدارة الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، التهديد اليمني لإسرائيل بما يحقّق النتيجة المؤملة، أي عبر تبنّي نهج مغاير وأكثر تطرُّفاً، عنوانه التدخل العسكري المباشر على الأرض اليمنية. إلا أن هذا الأمل يبدو مبنيّاً على التفكير بالتمنّي، وليس على مقدّمات يمكن ترجيحها. كما أن واحداً من الخيارات التي يجري التداول بها في تل أبيب، على لسان عدد من الخبراء، هو الامتناع عن استهداف اليمن، كون إخضاعه وردعه وربما أيضاً إسقاطه، صعب وشائك ويكتنفه الكثير من الغموض. وبدلاً من ذلك، تجري المطالبة باستهداف إيران نفسها، كونها الداعم والمحرّك والمموّل لـ«أنصار الله». لكنّ تفكيراً كهذا ينمّ عن قلة دراية بالساحة اليمنية وقيادتها وتوجّهاتها والعوامل المؤثرة في قراراتها. ومع افتراض صحة المقدمات في الخيار الأخير المذكور، أليس من الأجدى لإسرائيل مهاجمة إيران عسكرياً ربطاً بتهديدات إيران نفسها، بعيداً من التهديد اليمني؟ إن كانت القدرة على مواجهة كهذه متوافرة، فسيكون الأَولى ضرب إيران لذاتها، وليس لأنها تؤثّر في قرارات غيرها.
أما الخيار الأخير لدى تل أبيب، فهو وقف الحرب على غزة، وهو ما يتردّد كثيراً في خلاصات الرأي المنشورة في إسرائيل، لدى تقدير حالة التهديدات اليمينية ومستقبلها. وإذا كان التوصّل إلى وقف لإطلاق النار عبر الاتفاق المتبلور بين إسرائيل و«حماس» ممكناً، فسيكون بالإمكان إيقاف إسناد اليمن وتهديداته. إلّا أن خياراً كهذا يستند إلى «حسن نية» الجانب اليمني، والذي يبدو عرضة للانكسار سريعاً، تبعاً لانكسار محتمل في النبضة الثانية من صفقة تبادل الأسرى، والتي يقدّر بشكل واسع النطاق في تل أبيب أنها لن تبصر النور.

يحيى دبوق