الصمود حتى النصر

الأمة الإسلامية .. وأزمة القيادة والوعي

رؤية الشهيد القائد السيد حسين بدر الحوثي لاستعادة الأمة مكانتها والنهوض من كبوتها

لم تكن أزمة الأمة الإسلامية، في أي مرحلة من مراحل تاريخها، أزمة فقر في الوسائل، ولا شحًا في الطاقات أو انعدامًا في الإمكانيات، فقد حباها الله بثروات هائلة، وأرضٍ مباركة، وموقعٍ جغرافيٍّ يتوسط العالم، وجعل لها من التنوع الثقافي والحضاري ما يكفي لتقود البشرية نحو الرشد والعدل والخير. ومع ذلك، فإن واقع الأمة اليوم يشي بانهيارات متلاحقة، وضعفٍ متزايد، وتراجعٍ عن مكانتها الطبيعية بين الأمم. إن هذا التراجع لا يعبّر عن قصورٍ في المقومات المادية، بقدر ما يكشف عن أزمة أعمق، وأكثر جذرية: إنها أزمة قيادة ووعي وبصيرة.

فالقرآن الكريم حين يخاطب الأمة الإسلامية بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس، فإنه لا يمنحها وسامًا مجانيًا ولا يزكيها تزكيةً شكلية، بل يحمّلها تكليفًا إلهيًا خطيرًا، ومسؤولية عظيمة تتجاوز حدود التديّن الشكلي والمظاهر الفارغة. إنها رسالةٌ تعني أن على هذه الأمة أن تكون رأس الحربة في معركة الحق ضد الباطل، وريادةً تتحمل أعباء الهداية، وتنهض بواجب إقامة العدل، وتقاوم الفساد في الأرض، وترفع راية الله في وجه الطغاة والمستكبرين.

وفي هذا السياق، تأتي محاضرات الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي –رضوان الله عليه– لتقدّم قراءة ثاقبة لطبيعة هذه المسؤولية، وتشريحًا دقيقًا للأسباب التي كبّلت الأمة وأعاقت انطلاقتها، رغم ما تملكه من مؤهلات للنهوض. ففي محاضرته حول الآية الكريمة، لا يتوقف السيد عند حدود المعنى اللغوي أو التفسير الظاهري، بل يغوص في العمق ليفضح مكامن الخلل، ويضع إصبعه على الجراح النازفة في جسد الأمة.

يرى السيد أن الأمة الإسلامية تعيش حالة من الانفصام بين النص القرآني والواقع العملي؛ بين الهدي الإلهي والسلوك الجماعي. فبينما يدعوها الله لأن تكون خير أمة، نجدها اليوم في ذيل الركب، مكبّلةً بالتبعية، مستسلمةً للهيمنة، عاجزةً عن الدفاع عن مقدساتها، بل وغارقة في التنازع والتشرذم. ومن أبرز الأسباب التي يشير إليها الشهيد القائد في هذا التراجع، هو غياب القيادة القرآنية الواعية، التي تستمد رؤيتها من كتاب الله، وتستشرف الأحداث ببصيرةٍ نابعة من الإيمان، لا من حسابات المصالح الضيقة أو الخضوع للواقع المفروض.

كما يركّز السيد على أن العدو الحقيقي للأمة –وفي مقدمتهم اليهود والنصارى الذين وصفهم القرآن بأنهم يسعون في الأرض فسادًا– لم يتمكنوا من اختراق الأمة بقوتهم فقط، بل باستغلال غفلتها وتواطؤ بعض أبنائها، واختلال بوصلتها الفكرية والثقافية. ويؤكد أن المواجهة مع هؤلاء الأعداء لا تكون بالشعارات الفارغة أو التحركات الموسمية، بل من خلال وعيٍ مستنير يستند إلى القرآن، ويُعيد تشكيل الإنسان المسلم من الداخل، في فكره وروحه وسلوكه.

إن السيد حسين بدر الدين الحوثي –رضوان الله عليه – لا يقدّم في محاضرته مجرد كلمات حماسية أو انتقادات عابرة، بل يقدّم مشروعًا متكاملًا للنهوض، يبدأ بإعادة تعريف الأمة لنفسها، وفهمها لدورها، وتحررها من الوصاية الثقافية والسياسية، وانطلاقها في ميدان الصراع بما ينسجم مع وعد الله وتمكينه لعباده الصالحين. إن هذا المشروع –المبني على الوعي والبصيرة والقيادة الراشدة– هو ما تحتاجه الأمة اليوم لتستعيد مكانتها، وتنهض من كبوتها، وتعود إلى موقعها الطبيعي كخير أمة أخرجت للناس.

العرب بين شرف المسؤولية وخيانة التكليف

في مرحلة فارقة من تاريخ العرب والمسلمين، يستوقفنا نص قرآني يحوي ما هو أكثر من مجرد صياغة أدبية بليغة، أو تزكية عاطفية لأمة بعينها. نحن أمام آية تحمل قدرًا هائلًا من المعنى، وسقفًا عاليًا من التكليف:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.

السيد حسين بدر الدين الحوثي، في محاضرته حول هذه الآية، لا يتعامل معها باعتبارها عنوانًا للتفاخر أو مَكرُمة تُتلى في المناسبات الدينية أو في الخطب والمواعظ ( الاصطفاء لا يأتي لمجرد الاصطفاء إنما يناط به مسؤولية كبرى )، بل كوثيقة تكليف تاريخية تنطوي على مسؤولية حضارية كبرى.
أنتم من أُنيط بكم حمل هذه الرسالة، إن تتحركوا فعلى أيديكم تطهَّر الأرض من فساد من يسعون في الأرض فساداً، وعلى أيديكم يتم إعلاء كلمة الله، على أيديكم يكون إصلاح عباد الله. فضيلة السبق فضيلة عظيمة.”

بهذه العبارات، يُخرِج السيد الآية من سياق التمجيد الفارغ إلى سياق التكليف الجاد، هو لا يخاطب العرب كجماعة إثنية تملك إرثًا بلاغيًا وثقافيًا فحسب، بل كأمّة اختارها الله، لا لأن فيها ميزة ذاتية، بل لأنها كانت مؤهلة لتكون قاعدة الانطلاق لرسالة سماوية خُتامية.

وهنا يبدأ التحليل في سياقه الأخطر. الشهيد القائد (رضوان الله عليه) يرى أن العرب لم يُقدّروا عِظم الوسام الذي قُلّدوه، وأنهم لم يلتفتوا إلى معنى أن يُناط بهم مشروع إلهي لإنقاذ العالم. يقول:
من يعرفون قيمة الوسام الذي قلدهم الله سبحانه وتعالى به، وسام شرف عظيم، أن يكونوا هم المؤهلين لأن يحملوا هذه الرسالة؛ ليلتفوا حول راية هذه الرسالة، فيتحركون في أوساط الأمة، لإصلاح العباد، وتطهير الأرض من الفساد، ليحوزوا شرف السبق، شرف أن تصلح الأمة على أيديهم.”

إنه لا يتحدث عن حقبة تاريخية انقضت، بل عن منظومة مسؤولية متجددة، هو يدرك أن المسألة ليست مسألة زمن، بل حالة وعي، ولذلك، حين يحذّر من تكرار خطايا بني إسرائيل، فهو لا يُجري مقارنة عنصرية، بل يحذّر من السنن الإلهية التي لا تحابي أحدًا:
نفس المسالة بالنسبة للعرب أنفسهم… عندما يقصِّر، ويفرط المؤمنون، فتبقى الغلبة للفاسقين، يصبح المجموع، من حيث المجموع غير جدير بتحمل المسؤولية، وبالتالي يكون معرضاً للاستبدال.”

ما يطرحه السيد هنا، يُعيدنا إلى معادلة “الشرعية والجدارة”. فالاختيار الإلهي لا يمنح حصانة دائمة، بل يتجدّد بالالتزام ويتلاشى بالتفريط. من هنا تتكشف مأساة الأمة العربية، لقد فرطت في رسالتها الكبرى، وبدلاً من أن تكون قاعدة انطلاق للهداية، أصبحت هامشًا في دفتر العالم. يقول:”عندما فرطوا هم فرطوا في البشرية كلها، وأصبح معظم سكان الأرض لا يدينون بهذا الدين.”

وهنا نلتقط بصمة هيكلية واضحة: فكرة أن الفراغ لا يُترك طويلً، حين تتراجع أمة الرسالة، تتقدم قوى الفساد، وحين تغفل الأمة عن موضعها في الخريطة، تُعاد هندسة الخريطة من دونها، والشهيد القائد دقّ ناقوس الخطر بهذا الصدد مبكرا، وقبل أن تصل الأمة الى ما وصل إليه اليوم من حالة تخاذل وذلة لا مثيل لها، والغريب أنها تأتي على أيدي من ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة:”إذا ما تخليتم ستضرب عليكم الذلة والمسكنة، وتبوءوا بغضب من الله، كما ضربت على أولئك.”

بل ويذهب بعيدًا في تحميل العرب وزر البشرية، لأنهم كانوا الأصلح للتكليف، لكنهم غدوا عبئًا على الرسالة. يختم بتوصيف يُجسّد المأساة بكل تفاصيلها:
أصبحوا حتى لا يحملون ذلك الإباء الذي كان يحمله البدوي الذي يرعى الإبل… أصبحوا من يصفقون للظالم، من يؤيدون الظالم، من يعنفون من يرفع رأسه بإباء وشرف!”

اليهود والنصارى في صدارة أعداء الأمة

وبين وضوح النصوص ورهافة البصيرة، يضع السيد حسين بدر الدين الحوثي إصبعه على الجرح الأعمق في واقع الأمة الإسلامية، متناولًا طبيعة الصراع القائم بين الحق والباطل، ومُحدّدًا بدقة العدو الأول في هذا الصراع:

 أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، من يشكلون أعظم خطر على البشرية؛ لأنهم كما قال الله عنهم: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}.

ليست هذه مجرد قراءة دينية مجرّدة، بل وصف دقيق لمشهد يتكرر منذ قرون، ويتجسد اليوم بكل عنفه في غزة وفلسطين واليمن، حيث تتكشّف فصول العدوان الصهيوني، مدعومًا سياسيًا وعسكريًا من دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. هذا الدعم ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لمشروع تاريخي يهدف إلى “نشر الفساد في الأرض والهيمنة على البشرية واستعبادها”، وبسط النفوذ عبر أدوات ناعمة وخشنة.

يربط السيد بين طبيعة هذا “الفساد” الذي يمارسه اليهود والنصارى، وبين الأدوات المستخدمة لفرضه، قائلًا: “اليهود من يسعون في الأرض فساداً، يتحركون في ميدان الإعلام، يتحركون في ميدان الاقتصاد، يتحركون في ميدان السياسة، يتحركون في ميدان الاجتماع، في ميدان التربية والتعليم، في ميدان الثقافة.

هذه العبارات ليست وصفًا نظريًا، بل مرآة تعكس الواقع السياسي الدولي؛ حيث تحتكر القوى الغربية، وعلى رأسها أمريكا، مفاصل القرار في العالم، وتفرض ثقافتها على الشعوب، وتحاصر كل صوت مقاوم، وتُشيطن كل من يواجه الكيان الإسرائيلي.

ما يحدث في غزة اليوم من مجازر بشعة، ومن دعم أمريكي أعمى لإسرائيل، هو تجلٍ صارخ لهذا المشروع الذي وصفه السيد بـ”الفساد العالمي”، إذ يقول:

الذي يشكل خطورة على البشرية بشكل عام هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، من يسعون في الأرض فساداً.

وفي وصف دقيق لطبيعة الغطرسة الغربية، يضيف السيد:

انظر إلى أمريكا، وإلى إسرائيل، انظر إلى بريطانيا، إلى دول الغرب، ما الذي يسعون إليه؟ أن ينشروا الفساد في الأرض، وأن يلبسوا الباطل ثوب الحق، ويزيفوا الوعي، ويجعلوا الأمة تسير في ركابهم.

وهذه الصورة تنعكس بدقة في تغطيات الإعلام الغربي اليوم، الذي يُشرعن الاحتلال، ويُبرّر الإبادة في غزة، ويُصوّر المقاومة على أنها “إرهاب”، رغم وضوح المأساة الإنسانية. الدعم العسكري المفتوح، وصفقات الأسلحة، ومنع صدور قرارات دولية تجرّم الاحتلال، هي امتداد لذلك الفساد الذي تحدث عنه القرآن الكريم:

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً}.

ويمضي السيد في تحليل عميق لطبيعة الخطر اليهودي-الغربي، محذرًا من الخداع الذي تمارسه هذه القوى حين تدّعي أنها حاملة لراية الحرية والديمقراطية، بينما هي تزرع الحروب والانقسامات:

اليهود عندهم خبث، وتخطيط، ومكر رهيب، سيحطم ويجعل تلك الشجاعة في هؤلاء العرب، وذلك الإباء في هؤلاء العرب يتبخر إذا لم يهتد العرب بهدي الله في مواجهتهم.”

اليوم، بينما تتعرض غزة لحصار خانق وعدوان همجي، ونُشاهد بأم أعيننا كيف يُقتل الأطفال والنساء تحت أنقاض منازلهم، لا نجد من الغرب سوى بيانات باردة، ودعوات لضبط النفس، في حين يستمر تزويد الكيان الصهيوني بالقنابل الذكية والصواريخ الدقيقة، بل ويُستخدم الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن لمنع وقف إطلاق النار.

هذه الوقائع تترجم حرفيًا ما أكده الشهيد القائد من خطورة المكر اليهودي حين أوضح أنهم : هم من يحرك أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا، ودول أوروبا كلها،… أشخاص قليلين، تحكموا في الدول الكبرى في هذا العالم.” ويحمّل السيد حسين الأمة الإسلامية مسؤولية هذا التمادي، ليس لأنها ضعيفة ماديًا فقط، بل لأنها فرطت في حمل الرسالة، ورضيت بالذل والهوان. يقول : “ نحن العرب لم نجن على أنفسنا فقط، بل جنينا على البشرية كلها، تركناها ضحية لمن يسعون في الأرض فساداً، فكم هو إثم العرب! كم هي الجريمة التي ارتكبها العرب! أن يكون آلاف الملايين من البشر المساكين، الذين لا يفهمون شيئاً أمام الخبث والمكر اليهودي.”

والواقع يشهد: حين تتخلى الأمة عن واجبها، تُفتح الأبواب للعدو ليعيث في الأرض خرابًا. ولو أن الأمة استعادت وعيها، وحملت مشروعًا قرآنيًا حقيقيًا، لما وصلت غزة إلى هذا الحال من الحصار والجوع والدمار، ولما كان لأمريكا أن تمارس كل هذا الصلف بلا رادع.

إنها قراءة تتجاوز التحليل السياسي التقليدي، لتدخل إلى عمق التشخيص القرآني، فتفكّك أدوات الهيمنة، وتُعرّي مشروع الفساد العالمي، وتُذكّر الأمة بموقعها الطبيعي، إن هي أدركت من جديد معنى أن تكون خير أمة أخرجت للناس.

رائع، ننتقل الآن إلى المحور الثالث بأسلوب تحليلي إعلامي محكم، مستلهم من روح محمد حسنين هيكل، ومدعّم باقتباسات دقيقة من محاضرة السيد حسين بدر الدين الحوثي – الدرس الرابع من سورة آل عمران – مع إسقاط مباشر على المشهد العربي والإسلامي الراهن:

غياب القيادة المؤهلة لمعرفة طبيعة الصراع

حين تتيه الأمة، تفقد البوصلة وتسير خلف العدو

وحينما ننظر إلى واقع أمتنا اليوم ندها في قلب المأساة تقف كما لو أنها فقدت زمام أمرها، ميدان الصراع محتدم، العدو واضح ومعلن، ومع ذلك نرى التخاذل والتآمر داخل الأمة لصالح العدو نرى الدماء تنزف والكرامة تهان ونساء العرب والمسملين في فلسطين يستغثن هذه الأمة ولا من مغيث يتم إبادتهم 2 مليون فلسطيني في غزة وبشكل يومي ووحشي والأمة تكتفي بالمشاهدة عبر الشاشات بل للأسف بلغ البعض حد الطلب من العدو سحق ما تبقى من كرامة في نفوس الفلسطينيين وإبادتهم في هذه المحنة تغيب القيادة التي تمتلك من الفهم والشرعية ـ إلا ما رحم ربي ـ ما يؤهلها لخوض هذا الصراع الوجودي، وهذا تمامًا ما شخصه السيد حسين بدر الدين الحوثي، في واحدة من أكثر ملاحظاته حدة ووضوحًا:

الاصطفاء لا يأتي لمجرد الاصطفاء إنما يُناط به مسؤولية كبرى، الاختيار لا يكون لمجرد الاختيار، إنما يُناط به مسؤولية كبرى.”

السيد حسين هنا لا يتحدث عن رمزية أو تراتبية دينية، بل عن مشروع قيادي متكامل: أن تتصدر الأمة مواجهة الباطل يتطلب أن يقف في المقدمة أولئك الذين يحملون الهُدى القرآني والبصيرة المحمدية، وليس أولئك الذين تخرجوا من كليات السياسة الغربية أو تتلمذوا على موائد التطبيع.
فهو يضع النقاط على الحروف قائلًا بصرامة لا تحتمل التأويل:

تجد المسؤولية أيضاً على درجات الأولوية داخل هذه الأمة، العرب يتحملون مسؤولية كبيرة أعظم من غيرهم، أهل البيت وشيعتهم يتحملون مسؤولية كبيرة أعظم من غيرهم، أهل البيت بالذات يتحملون مسؤولية كبيرة أعظم من غيرهم.”

وهنا تتجلى نظرته الاستراتيجية، القائمة على أن القيادة ليست حقًا مكتسبًا، بل أمانة تُحمَّل لمن يملك البوصلة، ويعرف موضع قدمه في خريطة الصراع. وغياب هذا النمط من القيادة هو الذي جعل الأمة اليوم –رغم امتلاكها للثروات والقوة البشرية– تتخبط بلا مشروع، بلا رؤية، وتترك مقود السفينة في يد من يعمل ضدها.

وإذا أعدنا النظر في الواقع السياسي للمنطقة، فإن ما تشهده فلسطين، وغزة تحديدًا، يُجسِّد هذه النتيجة. قيادة مشتتة، منقسمة، تائهة بين قاعات المفاوضات ودهاليز التنسيق الأمني، بينما المقاومة الحقيقية تُحاصر وتُتهم بالإرهاب. هذا ليس ناتجًا عن ضعف القدرة، بل عن غياب القيادة التي تدرك طبيعة المعركة: أنها معركة وجود، ومعركة هوية.

الشهيد القائد (رضوان الله عليه) يُفرّق بوضوح بين القيادة الشكلية، والقيادة المؤهلة، حين يُشير إلى تجربة الأمة مع وصية رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله):

عندما لم يكن إيمانهم بالله بالشكل الذي يجعلهم يلتزمون حرفياً، إيماناً واعياً… بدأ التفريط من أيامهم، بدأ التفريط ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) على فراش الموت.”

ويذهب أبعد من ذلك، ليربط بين غياب القيادة الشرعية ونتائج التفريط، من تخلي عن الهداية، إلى الغرق في الفتن والضياع، حتى ضُرِبت الذلة على الأمة، فصارت “تستجدي” العالم لينقذها من عدوٍ صغير في عدده، كبير في خبثه.

وهنا تتضح أهمية أن تكون القيادة –كما يقول السيد حسين– نابعة من القرآن، من داخل الأمة، ممن يحملون مشروعها، لا ممن تُسلِّمهم مؤتمرات الغرب شهادات الشرعية. يقول:

القرآن الكريم هدى حتى إلى القيادة التي يجب أن تكون هي القيادة للأمة، كيف يجب أن تكون، ومن أين تكون.”

ما يجري في غزة اليوم مثال حيّ: مقاومة مخلصة يقودها أبناء الأرض، في مقابل صمت رسمي عربي، وقيادات تربّت على طاولات “السلام” وعقيدة “الاستقرار”، وهي عقيدة تُساوي الخضوع. قيادة المقاومة تُعرّي الجميع، وتُعيد تعريف معنى القيادة: لا مكاتب ولا بروتوكولات، بل تَصَدُّر للمواجهة، وفهم لحقيقة المعركة.

ولهذا يشير السيد إلى أن الخلل بدأ حينما:

لم يكونوا بمستوى أن يعوا، أن يعوا من خلال القرآن، ومن خلال محمد (صلوات الله عليه وعلى آله) عظم المسؤولية الكبرى، وكيف يكونون بمستواها.”

وبالتالي، فإن كل مشروع نهضوي حقيقي، لا يمكن أن ينطلق دون أن يُعيد تعريف القيادة: من تمثل؟ وبأي رؤية؟ وعلى أي أساس؟ هل هي قيادة تعرف العدو الحقيقي؟ هل تحمل مشروعًا قرآنيًا؟ أم أنها فقط تبحث عن موقع سياسي على طاولة المفاوضات؟

إن واقع الأمة اليوم يشهد على امس الحاجة إلى قيادة ربانية واعية، تعرف بطبيعة الصراع والمتميزة بالثبات والوعي والبصيرة، فالقيادة الربانية – كما يتضح من طرح الشهيد القائد ليست تلك التي تبحث عن حلول وسط، أو تبرر الخنوع والتطبيع، بل هي قيادة ترتبط بالقرآن، وتعمل على تهيئة الأمة للمواقف المصيرية، بل قيادة تبني الأمة لتكون في مستوى أن تقف في مواجهة أعدائها، تصنع أمة تعرف كيف تواجه، لا أمة تعيش في حالة من الرهبة والخوف. والمشكلة التي يشير إليها السيد أن معظم ما تملكه الأمة من وسائل وقوة قد لا يُوظف بالشكل الصحيح بسبب غياب القيادة التي تملك هذا الصفات.

وفي سياق هذا الحديث لا ننسى أن هناك نماذج في القيادة الربانية برزت في هذه المحنة التي تعيشها الأمة وقدمت البرهان، يأتي الموقف اليمني بقيادة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي كمثال حقيقي على القيادة التي تمثل المشروع القرآني. فحينما كانت الأمة في مفترق طرق، وأصبح الصوت الفلسطيني محاصرًا في أروقة المؤسسات الدولية، وقف السيد عبد الملك مع أبناء غزة بكل إمكانيات اليمن، متحديًا كل الظروف الصعبة التي يعاني منها الشعب اليمني جراء العدوان الأمريكي السعودي من أزمات اقتصادية خانقة وحصار قاسٍ.

رغم المسافات التي تفصل اليمن عن غزة، ورغم الأوضاع الصعبة التي يواجهها الشعب اليمني، لم يتردد السيد الحوثي في اتخاذ قرار تاريخي يدعم من خلاله المقاومة الفلسطينية بكل الوسائل الممكنة. هو لم يكتفِ بتقديم المواقف الكلامية أو الإعلامية، بل اتخذ خطوة عملية جادة في دعم المعركة ضد الاحتلال الإسرائيلي، مؤكدًا على ضرورة أن يتوحد المسلمون تحت راية المقاومة، وأن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة بأسرها، لا قضية الفلسطينيين فقط.

لقد تجسد في موقفه قمة الإيمان والوعي الاستراتيجي، حيث كان وقوفه إلى جانب غزة ليس مجرد دعم سياسي، بل هو موقف إسلامي وإنساني يعكس عمق فهمه لطبيعة الصراع وضرورة العمل من أجل دحر الاحتلال بكل الوسائل الممكنة. فالسيد عبد الملك قدم في هذا السياق موقفًا تاريخيًا مناهضًا للأنظمة التي تشتري صفقات مع الاحتلال وتوقع اتفاقيات تطبيع، وهي الأنظمة التي تقف عاجزة عن دعم غزة وهي لا تبعد عنها سوى خطوات قليلة. في الوقت الذي تمتلئ فيه خزائن تلك الأنظمة بالمليارات من الدولارات، تقف هذه الأنظمة مكتوفة الأيدي، بينما يسعى السيد القائد ومعه الشعب اليمني بكل ما يملكون لإسناد المقاومة الفلسطينية.

موقف السيد عبد الملك الحوثي يعكس كيف أن القيادة الربانية لا تعرف الحدود الجغرافية أو السياسية، بل هي قيادة تستمد قوتها من إيمانها العميق بقضية الحق، وقوة مشروعها الذي لا يتجزأ. هذا الموقف يكشف عن كيف يمكن للقيادة الحقيقية أن تُنتزع من قلب المعركة، بعيدًا عن المفاوضات المعقدة والصفقات السياسية الفارغة، ليصبح الموقف هو الأساس والجوهر، حيث يتطلب الأمر قيادة تعرف العدو الحقيقي، وتفهم طبيعة المعركة، وتستطيع أن تقدم مواقف جادة ومؤثرة في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة إلى خطوات فعلية لدعم قضاياها الكبرى.

أن القيادة ـ وفق ما قدمه الشهيد القائد ـ ليست لمن هب ودب بل هي اختيار رباني لمنهم جديرون بحمل المسؤولية وإنقاذ عباد الله المستضعفين. وإن لم تلتف الأمة حول هذه قيادة من هذا النوع ، فإنها ستبقى رهينة لقيادات تُسلَّمها واشنطن، ويختارها اليهود، أو تُفرزها مؤسسات الدول الاستعمارية.

ثلاثية الدفع نحو النهوض: معادلة قرآنية لإحياء الأمة

إن المؤامرات المتعددة على الأمة الإسلامية، يقدم الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي قراءة واعية وعميقة لطبيعة الصراع، واستنهاض الأمة من خلال “ثلاثية الدفع نحو النهوض”، وهي رؤية قرآنية متكاملة تنبني على الوعي بالخطر، الإعداد للمواجهة، والثقة بوعد الله.

أول الأركان: استشعار خطورة القضية.
حين تغيب الرؤية عن طبيعة المعركة، وحين تُختزل مفاهيم الإسلام في طقوس فردية منفصلة عن الواقع، يتسلل الانحراف تدريجيًا إلى عقائد الناس ومواقفهم. وهنا ينبّه السيد إلى أن الغفلة لا تؤدي فقط إلى الضعف، بل إلى الكفر دون إدراك:

ليعرف الناس بأنهم مهما حظوا به من عناية ورعاية، مهما حظوا به من تفضيل وشرف وتكريم، ولم يكونوا بمستوى المسؤولية التي أنيطت بهم، بمستوى هذا الشرف فإنها ستضرب عليهم الذلة والمسكنة، ويبوءوا بغضب من الله؛ لأنه قال هنا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} ذلك، يعني ما هو؟ ضْرب الذلة والمسكنة، وأن يبوءوا بغضب من الله. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} كيف يمكن أن يكون الكفر بآيات الله؟ أن يتحدث معك بآيات هي أعلام على حقائق، أنت في واقعك لا تؤمن بها، هذا كفر.”
وهذا تحذير صادم، لكنه واقعي. فكم من الشعوب المسلمة اليوم تبنّت مواقف ناعمة أو صامتة أمام جرائم الطغاة والمستكبرين؟ وكم من أنظمة تماهت مع العدو حتى أصبحت امتدادًا لسياساته؟ هذا هو الكفر العملي المغلف بالسكوت واللا موقف، وهو نتيجة غياب وعي حقيقي بخطورة المعركة.

الركن الثاني: خطورة التخلف عن المواجهة.
القرآن لا ينظر إلى الانهزام كحالة نفسية فقط، بل كجريمة تُفضي إلى الهلاك. والشهيد القائد يؤكد ذلك قائلًا:

“الشيء الثاني: خطورة إذا لم يعملوا على تأهيل أنفسهم؛ ليكونوا بمستوى المواجهة، الخطورة البالغة، بالعذاب العظيم، عندما قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105)”.

وهنا تتجلى المسؤولية الجماعية، فالأمة لا تُبنى بالأمنيات ولا بالكلام، بل بالإعداد الجاد والتهيؤ للمواقف العظيمة. وإذا نظرنا إلى واقعنا، سنجد أن الخلل في التأهيل الذاتي –علميًا، عسكريًا، إعلاميًا، وثقافيًا– هو سبب التراجع والانكسار. لقد تحولت كثير من شعوب الأمة إلى مجرد جمهور يستهلك المشهد، لا يشارك في صناعته، والنتيجة: عذاب يومي على كل المستويات، من فلسطين إلى اليمن.

الركن الثالث: الثقة بوعد الله والسنن الربانية.
بعد الوعي والخطوة العملية، لا بد من التوكل والثقة بالله. هذا الركن الثالث يكمل المعادلة، وبدونه تتحول الحركة إلى جهد مادي فقط، وقد تُصاب بالإحباط عند أول عقبة. السيد حسين ربط هذا المحور بسنن الله التي لا تتخلف:

“الدافع الثالث: تذكير الله لنا بأنه هو سيهيئ الأجواء التي يمكن أن تفتح انفراجات كبيرة أمام العاملين في سبيله، في هذا الميدان، كما يقول: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:108- 109).”

فالثقة بوعد الله ليست حالة عاطفية، بل هي فهم واعٍ لسنة إلهية ثابتة: من يسلك الطريق الصحيح، ويجاهد بصدق، فإن الله يفتح له الأبواب في اللحظة التي قد يظن فيها أن الأمور وصلت إلى سدّ. هذه السنة القرآنية ظهرت في كل محطات النصر، من بدر إلى كربلاء، ومن جنوب لبنان إلى غزة.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com