يمن الثورة يسقط هيبة أمريكا: حين تفشل القوة في إخضاع الشعوب
الصمود||مقالات||ياسر مربوع
في الشرق الأوسط، لا تمرّ كارثة كبرى إلا وتجد للولايات المتحدة يدًا فيها. تحت شعارات براقة، تقف خلف تمزيق دول، وتأجيج نزاعات، وكسر إرادَة شعوب. في كُـلّ بقعة مضطربة من هذه المنطقة، تُطلّ برأسها وتشن حروبها العبثية تارة تحت شعار “الحرب على الإرهاب”، وتارة أُخرى “حماية الملاحة البحرية”، وأحيانًا “الديمقراطية”. لكنها في كُـلّ مرة تترك خلفها رماد دول، وخرائط ممزقة، وذاكرة مشوّهة لدى الشعوب. من العراق إلى سوريا، ومن أفغانستان إلى اليمن فغزة، لا تكاد تُذكر مأساة إلا ويُذكر معها اسم الولايات المتحدة، لا كفاعل خارجي فقط، بل كمهندس للفوضى، وشريك في نزيف الدماء.
في مطلع الألفية الجديدة وتحديدًا في عام 2003م. شنت الولايات المتحدة حربًا شعواء على العراق تحت ذريعة “حيازة العراق على أسلحة دمار شامل، وإسقاط الديكتاتور”، لم يكن الهدف الحقيقي نشر الديمقراطية، بل تفكيك العراق؛ وتفتيت نسيجه الاجتماعي وزرع الطائفية، وتغذية الانقسام بخطوات ممنهجة، خرجت ظاهريًّا بعد سنوات لكنها تركت خلفها دولة منهكه، وشعبًا منقسمًا، ومشهدًا جيوسياسيًّا لا يزال يلتهب حتى اليوم.
غزة… لعلها النموذج الأوضح لهذه النزعة الدموية الأمريكية. فمنذ اندلاع حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، وقفت الولايات المتحدة ولا تزال بجانب (إسرائيل)، سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا. في دعمٍ غير مشروط لحرب مدمّـرة، وصمت مقصود أمام مأساة إنسانية ما عرف لها التاريخ مثيلًا.
ومع تعاقب إدارتين أمريكيتين على الحرب في غزة، فقد قدم بايدن لـ (إسرائيل) غطاءً كاملًا لارتكاب إبادة جماعية بحق سكان قطاع غزة، وأغرقها بشحنات السلاح والدعم، وأجهض أي مساعٍ أممية لوقف الحرب.
ذهب بايدن ويداه ملطختان بدماء الفلسطينيين؛ وجاء ترامب خلفًا له فلم يكن أقل عداءً من سلفه، بل فاقه في الإجرام وفي الغباء وفي الوقاحة حين خرج مصرّحًا بمقترح “تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الاردن ومصر”، وكأن فلسطين قطعة أرض ورثها عن أبيه يهبها لمن يشاء ويمنع عنها من يشاء، في خطاب يعكس منتهى الانحياز والعنصرية السياسية.
في هذا السياق الدموي، لم يكن اليمن بعيدًا عن عبث واشنطن، بل كان ساحةً جديدةً لعربدةٍ أمريكيةٍ بصيغةٍ أُخرى.
فبعد أن أمدت دول تحالف العدوان في حربها على اليمن منذ مارس 2015م، وبعد أن وقفت حجر عثرة أمام أية مقاربة عقلانية أَو سياسية لإنهاء الحرب في هذا البلد، تحَرّكت أمريكا مرة أُخرى، لكن هذه المرة بشكل مباشر. ضربات عسكرية، تصريحات عدائية، وضغوط اقتصادية لردع اليمن بكل وسائل القوة؛ غير أن واشنطن لم تفلح في كبح إسناد اليمن لغزة، بل ازدادت هجماته زخمًا من البحر الأحمر إلى عمق الكيان الصهيوني. ومع كُـلّ ضربة، تهاوت هيبة واشنطن، وتكشفت حدود قوتها أمام إصرار شعب قرّر أن يكون جزءًا من معركة كبرى عنوانها الحرية.
فشلت واشنطن، على لسان رئيسين متعاقبين، في ثني اليمن عن موقفه التاريخي المساند لغزة. لا بايدن استطاع إخضاعه، ولا ترامب بأحاديثه العنترية تمكّن من فك الحصار البحري عن (إسرائيل)، أَو وقف الصواريخ والمسيرات اليمنية التي طالت عمق الكيان الصهيوني والقطع الحربية الأمريكية في مسرح العمليات.
وهكذا، حقّق اليمن انتصارا غير مسبوق، ليس فقط على المستوى العسكري، بل على المستوى السياسي والأخلاقي. حين انتصر للدم الفلسطيني المسفوك ظلمًا، وأثبت أن المواقف المبدئية لا تُقاس بحجم الجغرافيا أَو ثقل الاقتصاد، بل بقوة الإرادَة وصلابة الانتماء.
والمنطقة تمر بأكثر لحظاتها حرجًا وتحيط بها المؤامرات الصهيونية الأمريكية الرامية إلى تعزيز دور الكيان الصهيوني جغرافيًّا وعسكريًّا؛ باعتبَاره قاعدة عسكرية متقدمة لدول الغرب الكافر وعلى رأسهم أمريكا وسط جغرافيا عربية خانعة، وأنظمة متآمرة، وشعوب تائهة تبحث عن نقطة ضوء داخل النفق المظلم، برز اليمن لاعبًا جديدًا في الإقليم، وقوةً صلبة نمت تحت الحصار والنار، وباتت قادرةً على تشكيل مشهد الصراع، وإفشال مخطّطات الأعداء، وفرض معادلاتها الصُّلبة على الجميع.