إسرائيل” ــ السعودية: نحو تحالف استراتيجي معلن
قد تكون الحاجة لتطوير التحالف بين النظام السعودي و “إسرائيل”، أكثر الحاحاً من أي مرحلة مضت. لكن الطرف السعودي يجد نفسه ملزماً باعتماد سياسة التدرج في تظهير العلاقات مع تل أبيب وتطويرها. مع ذلك، فإن مسار التطورات الاقليمية وفشل الرهانات المتوالية قد يدفعان الرياض للمبادرة إلى «قفزة نوعية» في تظهير وتعزيز العلاقات مع تل أبيب.
بنظرة خاطفة إلى التحديات التي مرت بها “إسرائيل” طوال تاريخها، يمكن القول إنها استفادت وتناغمت وتكاملت مع الدور السعودي الاقليمي في أغلب مراحلها وبما يتناسب مع الظروف السياسية لكل منها.
أيضاً، كانت “إسرائيل” وما زالت العدو اللدود لكل من ناصبه النظام السعودي العداء في العالم العربي. ومع أن الخطاب الرسمي العربي العام والظروف السياسية حالت دون تقارب بين الرياض وتل أبيب في مراحل تاريخية سابقة، لكن ذلك لم يحل دون تموضعهما في المعسكر الدولي والاقليمي نفسه، بل وتقاطعت أولوياتهما في أكثر من محطة تاريخية. ولتفسير هذا التداخل، يكفي الاستناد إلى حقيقة أنّ كلا الكيانين السعودي والإسرائيلي، وُجد في الحيز الاقليمي ذاته، وفي المرحلة التاريخية نفسها، وعلى يد الدولة الاستعمارية ذاتها، بريطانيا، ويتظللان حالياً بالمظلة الدولية نفسها، الولايات المتحدة.
لكن الآن، تتبنى كل من تل أبيب والرياض الخطاب السياسي نفسه، وتتقاطع أولوياتهما الاقليمية إلى حد التطابق، في تحديد الاعداء وكيفية مواجهتهم… بل يلاحظ أن مفردات الخطاب الدعائي تكاد تكون هي نفسها سواء لجهة المفردات المذهبية وتصنيف القوى الاقليمية في ما يتعلق بالنظرة والموقف من حزب الله والنظام السوري والجمهورية الاسلامية في إيران. في غضون هذا التوجه، ما نشهده من مواقف وخطاب إسرائيلي رسمي وغير رسمي، وتقارب سعودي باتجاه إسرائيلي ظهر منه حتى الآن، عدد من اللقاءات العلنية، وصولاً إلى زيارة الوفد السعودي إلى “إسرائيل”، ليس سوى حد أدنى ومقدمة لما يتوقع أن نشهده في المرحلة المقبلة.
يمكن اعتماد أكثر من مدخل في تأصيل التطور الذي تشهده العلاقات السعودية الإسرائيلية، وتفسيره بطرق مختلفة. لكن يبقى السياق الاقليمي محورها الأساسي والعامل الابرز في تفسير الاندفاعة المتبادلة بين تل أبيب والرياض، وصولاً إلى التدرج في تظهيرها، الذي قد يكون متأخراً كثيراً عن حقيقة ما يدور بعيداً عن الاضواء… وهو أمر له سوابقه في العلاقات الإسرائيلية العربية.
العامل الاساسي في اندفاع السعودية نحو الارتقاء بالعلاقات مع تل أبيب، يعود بالدرجة الأولى إلى فشل رهاناتها المتوالية في مواجهة أطراف محور المقاومة. بدأ هذا المسار من الدعم اللامحدود الذي قدمته السعودية في حينه لنظام صدام حسين في حربه ضد إيران، خلال الثمانينيات… تلاه في مرحلة لاحقة، وبفعل تطورات دولية واقليمية، الرهان على عملية التسوية في انتاج نظام اقليمي يجهض المقاومة ويقطع الطريق على تبلورها كخيار استراتيجي بديل في حركة الصراع مع “إسرائيل”. لكن هذا المسار لم تكتمل حلقاته في ظل صمود سوريا في حينه، وانتصار المقاومة في لبنان، ثم انفجار انتفاضة الأقصى عام 2000.
أيضاً راهنت السعودية لاحقاً على الاحتلال الأميركي للعراق، لجهة انتاج نظام سياسي عراقي يؤدي دور الشرطي الاميركي في المنطقة لاحتواء إيران وسوريا والضغط عليهما بل واسقاطهما لاحقاً، مدعوماً بوجود عشرات الآلاف من الجنود الأميركيين. ومع التأكيد على أن المعركة لم تحسم حتى الآن على الساحة العراقية، لكن ما كانت تطمح إليه السعودية لم يتحقق في تلك الساحة… وبات أبعد ما يكون من أي وقت مضى.
إلى ذلك، فشلت المساعي السعودية والاميركية في الرهان على مسار القرار 1559، وما نتج عنه وتلاه من تطورات توجت بحرب عام 2006، التي رمت إلى اسقاط المقاومة في لبنان واخضاع النظام السوري أو اسقاطه. وفشلت أيضاً محاولة احتواء النظام السوري، بعدما أظهر صموداً استثنائياَ في أعقاب احتلال العراق من خلال تمسكه بخيار دعم المقاومة في لبنان وفلسطين، ولم تنجح محاولات اغرائه واستدراجه للانتقال الى المعسكر الاميركي في المنطقة على حساب القضية الفلسطينية وبهدف اسقاط المقاومة في لبنان. وأيضاً فشل الرهان السعودي، ومعه كل من ينتمي الى هذا المعسكر، حتى الآن في اسقاط سوريا واستبدال نظامها ورئيسها بآخر معادٍ للمقاومة وخيارها، يتبنى الخيار السعودي الاقليمي من تل أبيب إلى طهران.
كذلك، مثّل الاتفاق النووي بين الدول العظمى وإيران، تتويجاً لفشل الرهان السعودي الذي كان يستند إلى خطاب أميركي ـ إسرائيلي يوحي بأن مستقبل هذا المسار يتجه اما نحو مزيد من العقوبات التي تشلّ إيران وتهدد نظامها… أو نحو ضربة عسكرية إسرائيلية أو أميركية. الامر الذي كان سيؤدي أي منهما إلى إعادة تشكيل نظام اقليمي جديد، يُحجِّم ايران، ويضعف المقاومة ومحورها، على أقل تقدير.
تراجع الرهانات على مهاجمة إيران، وتحررها من العقوبات – على الاقل في ما يتعلق بعلاقاتها مع بعض الدول العظمى – وفشل احكام السيطرة على العراق، وفشل اسقاط الرئيس الاسد… ونجاح المقاومة في لبنان في فرض معادلات عززت قدراتها، ومنحتها هامشاً أوسع. كل ذلك، ساهم في تعزيز حاجة النظام السعودي الى حليف اقليمي بديل يثق بقدراته ويتطابق معه في التوجهات والاولويات، ويراهن من خلال «التخندق» معه على التعويض عن الخسارات الاقليمية المتتالية، وعلى انتاج قدر من التوازنات والمعادلات التي تحد من مفاعيل تسلسل هذا المسار الفاشل من الرهانات على مكانة السعودية الاقليمية التي تعمقت ورطتها في مواجهة الشعب اليمني.
ايضاً، إن هذا المسار نفسه من الرهانات المتوالية التي لم تنجح في تحقيق ما كان تطمح اليه تل ابيب، انعكس سلباً على الأمن القومي الإسرائيلي. من دون تجاهل حقيقة ومفاعيل المخطط التخريبي الذي ضرب سوريا والعراق.
وهكذا باتت الحاجة الملحة والمتبادلة بين تل أبيب والرياض، تدفع باتجاه ضرورة تطوير مستوى التنسيق والارتقاء به الى التحالف الاستراتيجي المعلن، وخاصة أن مستقبل التطورات قد تتطلب ادواراً ومهمات لا يمكن ابقاؤها ضمن إطار السرية.
على خط مواز، يبدو أن الاطراف المعنية ترى أنه لتحقيق هذه القفزة لا بد من تدجين الرأي العام وتطبيعه، الأمر الذي يتطلب التدرج في تظهير هذه العلاقات وتطويرها. وهو ما يجري تطبيقه فعلاً.
أيضاً، تدرك هذه الاطراف أن هناك شروطاً لا بد من توافرها قبل الاقدام على انعطافة حادة علنية في العلاقات مع “إسرائيل”، التي من المؤكد أن النظام السعودي سيقدم عليها في مرحلة لاحقة.
أول هذه الشروط أن لا تبقى بوصلة العداء موجهة نحو الكيان الاسرائيلي، ولذلك تصر السعودية حتى الان على أن يكون المدخل لذلك تسوية ما على المسار الفلسطيني.
وثانياً أن يجري استبدال العداء لـ”إسرائيل”، بالعداء ضد العدو المشترك المتمثل بإيران. ولتحقيق هذه الشروط كان لا بد من أداء سياسي واعلامي مدروس، وينبغي الاعتراف بأنه تجري تأديته على أكمل وجه.
في غضون ذلك، وبهدف استنهاض الشارع الاسلامي «السني» لمصلحة هذا الخيار، لا بد من معارك تحمل عناوين مذهبية واداءً اعلاميا مذهبيا وسياسة حقن مذهبي. وفي هذا الاطار ليس صدفة أن كل الخطاب الاسرائيلي الرسمي، وتحديداً على لسان نتنياهو وسائر المسؤولين الاسرائيليين، ومعه الخطاب الاعلامي ومقاربات الخبراء السياسيين، ومعاهد الدراسات تتبنى المصطلحات نفسها التي تخدم هذا الاتجاه في التعبئة المذهبية. فمثلاً في “إسرائيل” يتبنون تسمية المحور الشيعي بدلاً من محور المقاومة، وكأن السنة لا علاقة لهم بالمقاومة، وتجري تسمية المحور المعادي للمقاومة وتدعمه “اسرائيل” بالمحور السني المعتدل، للايحاء بأن “اسرائيل” إلى جانب السنة المعتدلين في مواجهة محور المقاومة.
وخصوصية هذا الخطاب السعودي ــ الإسرائيلي أنه يحاكي مباشرة الجمهور السني، انطلاقاً من ادراكهم أن نجاح أي مخطط لا بد أن يمر بالضرورة بتحويل “إسرائيل” الى كيان طبيعي في المنطقة، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا عبر «البوابة السنية» باعتبارهم الاكثرية في المحيط العربي لـ”إسرائيل”.
على هذه الخلفية، كل عملية ينفذها شاب فلسطيني ضد الجنود والمستوطنين في داخل “إسرائيل”، تمثّل طعنة حقيقية للمخطط السعودي في هذا المجال. لأنه يؤكد ويكرس بوصلة العداء لـ”اسرائيل”، ويساهم في المحافظة على تصدر ووهج القضية الفلسطينية وعلى أن لها الاولوية في الصراع، وأن الشارع السني ليس ورقة بيد السعودية تزج به في معارك وفق الاولويات الاميركية في المنطقة.
بدرجة لا تقل أهمية، تبلور واقع اميركي دولي رأت فيه السعودية دافعا اضافيا للبحث عن حليف اضافي يعزز من مكانتها الاستراتيجية ويعدل من المعادلات الاقليمية في مواجهة محور المقاومة، وهو ما يتوافر بالضرورة بـ”اسرائيل”. وفي التفصيل، هناك انطباع وتقدير إسرائيلي وسعودي، بأنه لم يعد بالامكان الركون التام إلى السياسات الأميركية في المنطقة. ويستندون في ذلك، إلى تصور مفاده بأنّ الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة، بعد احتلال العراق وأفغانستان، والازمة الاقتصادية العالمية إضافة إلى تغيير ما في معادلات القوة في المنطقة، لم تعد تتلاءم مع ما تراه كل منهما لما ينبغي أن يكون عليه الخيار الاميركي. وأكثر ما برز هذا المفهوم في ردات فعلهما على الانكفاء الاميركي في مواجهة إيران خلال المفاوضات النووية، وهو ما عدّاه خضوعا للجمهورية الاسلامية، وفي مواجهة النظام السوري.
هذا الواقع، دفع رئيس مجلس الامن القومي الإسرائيلي الأسبق، اللواء يعقوب عميدرور الى القول ان السعودية وسائر الدول التقليدية «تحافظ على الوضع القائم وموجودة في منطقة لا تتوقف عن التغير، وتبحث عن مرساة من أجل تحقيق الاستقرار، واسرائيل هي هذه المرساة». وبهدف القفز الى ما يجسد طموح الطرفين السعودي والاسرائيلي، دعا عميدرور إلى «بناء منظومة علاقات تمثّل مظلة مشتركة من أجل تحرك تقوم به الدول السنية واسرائيل ومن ثم يمكن ضم الفلسطينيين اليه من أجل البدء بالمفاوضات». وخلافاً للماضي، فإن تحسين العلاقات في هذا الوقت لا يقل في نظر الدول العربية أهمية عنه بالنسبة لـ”إسرائيل”، لكن العقبة الفلسطينية تعيقهم عن ذلك، وليس واضحاً ما إذا كانت هذه الدول قادرة على التغلب على هذه العقبة على الرغم من مصلحتها في ذلك. وشدد عميدرور على ضرورة «أن تفكر إسرائيل في كيفية تقديم المساعدة من أجل تحقيق ذلك، لأن ما يجري هو فرصة تاريخية».
استناداً إلى هذا الواقع الذي آلت اليه التطورات، وبفعل التراجع السعودي في كل ساحات المواجهة، وعلى قاعدة المصالح المشتركة والاعداء المشتركين، وانطلاقاً من أن “إسرائيل” تحوَّلت، وفق الرؤية التي جرى تقديمها، إلى ضمانة استراتيجية للسعودية لكون التحالف معها قد يساهم في تعديل التوازن الاقليمي في مواجهة محور المقاومة، ينبغي أن نوطِّن أنفسنا منذ الآن على حقيقة أننا سنشهد في مرحلة لاحقة قفزة نوعية سعودية باتجاه تظهير وتطوير التحالف مع “إسرائيل”.
علي حيدر / الاخبار