المولد النبوي.. والوحدة الإسلامية والنزغ الصهيوني
الأستاذ/ طه هادي الحاضري
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّد نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله دُونَ الاُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَالْقُرُونِ السَّالِفَةِ بِقُدْرَتِهِ الَّتِي لاَ تَعْجِزُ عَنْ شَيْء وَ إنْ عَظُمَ، وَ لا يَفُوتُهَا شَيءٌ وَإنْ لَطُفَ، فَخَتَمَ بِنَا عَلَى جَمِيع مَنْ ذَرَأَ وَ جَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى مَنْ جَحَدَ وَكَثَّرَنا بِمَنِّهِ عَلَى مَنْ قَلَّ. اللّهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّد أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَ صَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إمَامِ الرَّحْمَةِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَ مِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض عن أصحابه الأخيار من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
في البداية نبارك لكم حلول ذكرى المولد النبي الشريف التي تأتي هذا العام متزامنة مع الانتصارات التي يحققها بفضل الله تعالى مجاهدونا الأبطال من أبناء الجيش واللجان الشعبية في صد العدوان السعودي الأمريكي الغاشم في مختلف جبهات البطولة والشرف والكرامة، وتتزامن أيضاً مع الفرج الإلهي بفك العشرات من المجاهدين الأبطال من الأسر ، والذي نسأل الله بحق صاحب الذكرى (ص) أن يُفرّج عن الباقين إنه سميع مجيب الدعاء.
وتَيَمُّناً بهذه المناسبة وتباركاً بها، نتشرف بالمشاركة في الندوة المباركة التي تقيمها رابة علماء اليمن بعنوان “المولد النبوي .. دلالات الإحياء وقيم الوحدة الإسلامية” وذلك بورقة العمل هذه التي حملت عنوان “المولد النبوي .. الوحدة الإسلامية والنزغ الصهيوني” والتي ركزت على ثلاثة محاور هي:
المحور الأول: لمحة سريعة عن النبي (ص) قبل مولده.
المحور الثاني: الوحدة الإسلامية.
المحور الثالث: النزغ الصهيوني.
المحور الأول: لمحة سريعة عن النبي (ص) قبل مولده ه
لقد كان النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً لدى كل الأنبياء والرسل الذي سبقوه، وكانوا يؤمنون به، ومُوَطِّنُون أنفسهم على نصرته إن أدركوه، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) فكانوا يُبشرون به بين أممهم ويدعون أقوامهم إلى الإيمان به ويحثونهم على نصرته إذا أدركوا زمانه، وكانت الكتب السماوية التي نزلت عليهم تزخر بالتعريف به وبعلاماته وعلامات ظهوره، وأبرز من بشَّر به من الأنبياء والرسل أنبياء بني إسرائيل حيث كان النبي الخاتم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مكتوباً في التوراة والإنجيل حتى عرفه بنوا إسرائيل (أهل الكتاب) كما يعرفون أبناءهم، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) حتى أن بعض اليهود من بني إسرائيل هاجروا إلى يثرب (المدينة المنورة) لانتظار ظهوره وهجرته إليها حتى يكونوا أول من يؤمن به ويتشرف بنصرته، فكان من ذراريهم يهود بني قينقاع وبني النظير وبني قريظه وغيرهم وكانوا حال حدوث مشكلة بينهم وبين العرب وخصوصاً الأوس والخزرج في يثرب يستفتحون عليهم بأنه قد أظل زمان النبي الخاتم وأنهم سينصرونه ويقاتلون العرب تحت قيادته، ولكنهم كفروا به حال ظهوره رغم معرفتهم له وتأكدهم ويقينهم منه، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) ولهذا سارع الأوس والخزرج إلى الإيمان بالنبي (ص) لما سمعوا عنه وعرفوه من خلال ما كانوا يسمعون من مقولات اليهود عن مجيئه وفضله، فسبقوا بالإيمان اليهود الذين كفروا به، مع العلم أن هناك من اليهود من آمن به ومدحهم الله تعالى بقوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) هذا بالنسبة لليهود أما بالنسبة للنصارى فقد صرح لهم عيسى عليه السلام باسمه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) ولكنهم ضلوا وأنكروه وكفروا به.
من الواضح هنا أن الإيمان برسول الله محمد (ص) لم يبدأ ببعثته بل قبل مولده وموجود ذكره في أدبيات الأمم الماضية والرسالات السابقة والنبوءات المتتابعة وكان المؤمنون الموحدون قبل بعثته يؤمنون به وكانوا يعيشون حالة استنفار لنصرته كما دل على ذلك قصة الصحابي الجليل سلمان الفارسي الباحث عن الحقيقة حتى وجدها في النبي (ص) بتوصيات من الأحبار والرهبان الذين عاش عندهم حتى انتهى به المطاف عبداً ليهودي بيثرب (المدينة المنورة) فاستمع لكل العلامات والإرهاصات لولادته وبعثته ورآها فيه فآمن به وحرره الرسول (ص) من الرق.
فرسول الله (ص) كان جزءاً من إيمان الأمم السابقة بأنبيائها، وكان معروفاً قبل مولده بالعلامات وبالأوصاف وحتى بالإسم وبمكان هجرته، وحين بُعث صلوات الله عليه وعلى آله آمن به أناس من مختلف الجنسيات والقوميات ومن مختلف الديانات آنذاك فآمن به العربي والحبشي والفارسي والرومي وغيرهم وآمن به اليهودي والنصراني والمجوسي والوثني وغيرهم وكفر به من كفر.
لحق النبي (ص) بالرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وختم الله به أنبياءه ورسله فلا نبي بعده، وما زال الإيمان به (ص) شرطاً للإيمان بالله تعالى وتوحيده ونيل رضاه وعفوه وهو الوحيد من الأنبياء والمرسلين الذي يُردد اسمه في الآفاق وفي مختلف بقاع الارض وأرجاء الدنيا ودول العالم وبالصوت المرتفع وبمكبرات الصوت (أشهد أن محمداً رسول الله) وما زال الإيمان به وبرسالته هي المرور الآمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة وما زالت أخلاقه وشريعته هي الخلاص لعالم اليوم الذي يعيش اضرابات وأزمات وحروب وانحطاط أخلاقي واقتصادي واختلافات ومآس وعصبيات وعنصرية وجاهلية حديثة ومعاصرة بطول العالم وعرضه تستخدم العلم والتقدم والتكنولوجيا في الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
المحور الثاني: الوحدة الإسلامية
مما سبق يتضح أن رسول (ص) ليس خاصاً بالعرب والمسلمين اليوم بمعنى أنه ليس نبيهم وحدهم أو رسول يخصهم إذ الحقيقة أنه رسول الله إلى الجميع وإلى البشرية وكل الإنسانية مع فرق أن هناك من آمن به وهناك من كفر به، فلم تنته صلاحية رسالته إذ أن صلاحيتها وفاعليتها إلى أن تقوم الساعة فالله تعالى أرسله إلى الناس كآفة قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) وقال سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
ورسالة النبي (ص) في مضمونها رحمة للعالمين قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وعلى رأس المرحومين برسول الله (ص) البشر الذي هو منهم وبشر مثلهم وبهذا هو رحمة حتى لليهود والنصارى قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وجاء (ص) ليحسم الخلاف بينهم قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ولأن رسالة النبي (ص) إنسانية وعالمية وخاتمة بعثه الله في وسط العالم ومركزه مكة المكرمة في شبه الجزيرة العربية في العالم العربي وفي المنطقة التي تُسمى بالشرق الأوسط قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) والمفترض أن يكون العرب والمسلمون من خلال الرسول الكريم ودين الإسلام والقرآن الذي نزل بلسانهم ومن خلال موقعهم الديني والتاريخي والجفرافي أن يقدموا الحل للعالم بأسره شرقه وغربه بما حملهم الله وكرمهم وشرفهم لا أن يكونوا كما هم في هذا العصر – إلا من رحم الله – أذلة صاغرين تلتهب منطقتهم بالحروب ويتحكم بهم الشرق والغرب، من اليهود والنصارى – أهل الكتاب – والذين تمثلهم أمريكا وإسرائيل ودول الغرب وروسيا وغيرها.
إنه من المؤسف أن يأتي الرسول والقرآن ليحسما الخلاف بين بني إسرائيل – مع أنهم لم يقبلوا بالحق – على أساس أن المسلمين يجمعهم الرسول والقرآن والإسلام والقبلة فإذا بالمسلمين أنفسهم يتفرقون ويختلفون ويتقاتلون ويتعاون بعضهم مع أعدائهم على إخوتهم مما يدل على هجرهم للقرآن وضعف ارتباط بنبي الإنسانية (ص).
عندما يتأمل الواحد منا العالم الغربي والأوربي ويرى استقراره رغم وجود ملل متفرقة وأديان مختلفة وعرقيات كثيرة وقوميات متعددة وثقافات متنوعة واختلافات جذرية وجوهرية ويشكلون الاتحادات كالاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية والأمم المتحدة التي يتحكم بها الغرب ويتأمل تفرقنا كمسلمين رغم أن ديننا واحد ونبينا خاتم الأنبياء والمرسلين متفقون بشأنه ومؤمنون برسالته وكتابنا المقدس القرآن الكريم الذي نقرأه سوياً بدون زيادة أو نقصان وقبلتنا التي نتوجه إليها واحدة وإذا اتفقنا تحالفنا على بعضنا على قوى المقاومة والممانعة والمناهضة للمشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة والعالم فإنه يرى بوضوح حجم الغباء والحمق والبعد الشاسع بيننا وبين نبينا (ص) الذي لا يمكن أن نتوحد إلا به وبتعاليمه وعلى مقتضى سيرته وأخلاقه ويمكن أن يشكل المولد النبوي الشريف بداية للمِّ الشعث وتوحيد الصف والكلمة ونبذ الفرقة والشتات ونشر المحبة والإخاء لأن النبي لا يُمثل طائفة أو مذهب أو حزب أو نظام سياسي أو حركة أو جماعة أو أي مشروع ضيق وصغير ومحدود ومنغلق على نفسه.
المولد النبوي مناسبة وحدوية
إنها فرصة عظيمة أن تكون ذكرى المولد النبوي الشريف مناسبة لنتذكر رسول الله ورسالته به وعلاقتنا به وارتباطنا كمسلمين لا فرق بين سني ولا شيعي إلا بالتأسي به والاتباع له ولا بين طائفة وطائفة إلا بقدر تجسيد أخلاقة ولا بين مذهب ومذهب إلا بصدق الانتماء السلوكي والتعاملي له ولا بين حزب وحزب إلا بتجسيد حرصه على الناس وعلى هدايتهم ونجاتهم في برنامج الحزب وممارساته على أرض الواقع وابتعاده عن الكذب والاستغلال ومراعاة مصالحه الخاصة على حساب المصالح العامة وعلى حساب الأمن القومي الإسلامي.
لقد استطاع النبي (ص) أن يُنشئ أمة إسلامية رائدة في برهة من الزمن سادت الدنيا بقيادته فكان من عناصرها العربي والعجمي والفارسي والرومي والحبشي وذابت الاختلافات الدينية والمعتقدات الخاطئة وانصلحت الأخلاق الذميمة واستقام السلوك المنحرف.
ومن هنا فليس سبب الفرقة عدم معرفة الحق لأنه واضح وأبلج وإنما خلل في الفهم وعقم في التفكير وأخطاء في السلوك وكل ما سبق نابع من سوء في الأخلاق.
فإذا كان النبي (ص) يقول موجزاً رسالته في عبارة واحدة: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ويقول عن الدين الإسلامي برمته في جملة واحدة: (الدين المعاملة) ومكارم الأخلاق والمعاملة بين الناس هي أمور عملية سواء بالقلب أو باللسان أو بالفعل وهي التي يعبر القرآن الكريم عنها بالعمل الصالح وكم تكرر قوله سبحانه عن المؤمنين: (وعملوا الصالحات) فأول خطوة للوحدة الإسلامية هي الأخلاق التي وردت في القرآن الكريم وجسدها الرسول (ص) بالتعامل واقعاً وكان لها الأثر الكبير حتى أن من المشركين من كان يُسلم ويُؤمن لمجرد موقف واحد رأى من خلاله عظمة أخلاق الرسول (ص) وقبل أن يسمع آية واحدة من القرآن الكريم.
فالدين بطبيعته وحدوي واجتماعي وتجميعي للناس فمن الصلاة وحركاتها الأساسية – دون الاكتراث بالأمور الفرعية الفقهية – ومروراً بها جماعة خمس مرات في اليوم والليلة وبصلاة الجمعة وصولاً إلى الحج وتجمع المسلمين من مختلف الدول والجنسيات واللغات والشعوب والقوميات تكون الفرائض توحيدية لله تعالى ووحدوية للناس أما في جانب التعامل فشرع الله واضح فيما يتعلق بالبيع والشراء والنكاح والطلاق وكل أبواب المعاملات الفقهية بالإضافة إلى التعامل الأخلاقي من طاعة للوالدين وبين الإخوة والأرحام والأقرباء واتساع الدائرة بالجيران والأصحاب والأصدقاء والمسلمين بشكل عام وبالصدق والأمانة والتناصح والولاء والبراء وغيرها وكل هذه الأمور سواء العبادية أو المعاملاتية أو الأخلاقية السلوكية التي هي مترابطة أصلاً وهي محل اتفاق ويجمعها توجيهات الله تعالى بالاعتصام بحبله وبالتوحد بمنهجه وتحذيره ونهيه من الفرقة والشتات والاختلاف وتهديده لمن يشرد عن طريق الألفة والمحبة والتراحم والتعاضد والتكافل والتعاون.
والمولد النبوي الشريف هو رسالة وحدوية عظيمة بالغة الأثر في نفوس المسلمين إذا ما أحسنوا استغلالها بإيجابية وبوعي ومسؤولية لأنه يذكرنا بالوسيلة المناسبة والسليمة والفاعلة لانتقالنا من مجر التنظير للوحدة وهي الاقتداء بالرسول (ص) الذي قال الله تعالى له: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ومن أخلاقه العظيمة الـتألم على واقع الناس المأساوي والحرص على هدايتهم بكل حب لهم وشفقه عليهم قال الله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ومن شدة ألمه وحزنة وأسفه على الناس قال الله تعالى له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) فهذه الروحية النبوية هي منطلق للدعوة إلى الوحدة من منطلق الحرص على الأمة وليس من باب الانتماء الضيق أو في حدود النظام السياسي الذي يقبع الداعي تحت حكمه أو في إطار عصبيته المذهبية أو الطائفية أو في بعده القومي والشعبي.
كما أن من الأسس للوحدة هي ترك الفضاضة في التعامل مع الآخرين يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم سينفضون من حول رسول الله (ص) وهو رسول الله ينزل عليه الوحي لو كان فظاً غليظ القلب فكيف بغيره (ص)! وكيف سيتقبل الناس الواحد منا إذا دعاهم إلى الوحدة وهو غليظ القلب بل كيف سيتقبل غير المسلمين الإسلام ونحن كذلك.
فالألفة ليست مذهباً والمحبة ليست طائفة والأخلاق ليست محل خلاف فقهي ولا فكري ولا عقائدي ولا سياسي بل هي روح الرسالة وسمة الرسول (ص) ومع ذلك ننحدر إلى الخلافات فنحن – وللأسف ونقولها بصراحة وبكل شفافية – ونحن على حالتنا هذه باحثون عن خلافات وطلّاب اختلافات وإذا اتفقنا في أمر هنا بحثنا عن اختلاف هناك لقد أصبحنا والله المستعان مدمني خلافات وأصبح الدين والالتزام هو مجموعة الخلافات بيننا ونتناسى المشتركات وما أكثرها ونتجاهل الاتفاقات وما أعظمها ويُشخِّص كل واحد منا الآخر بقدر ما يختلف معه فقط وينحرف سلوكنا تجاه الآخر المسلم على الرغم أن سلوكنا وأخلاقنا يجب أن تكون سامية مع غير المسلم فكيف بالمسلم.
فليست مشكلتنا فكرية ولا عقائدية بقدر ما هي سلوكية وأخلاقية لأننا حين ننطلق بالدعوة والاستقطاب والتوعية بالدين بين الناس ننطلق تحت سقف الآراء المذهبية والطائفية التي أغلبنا لم يفكر فيها قط وإنما تلقناها تلقيناً وأجزم أننا في كثير من الأحيان لا نفهمها أصلاً ولكننا نعتبرها مسلمات وخطوط حمراء لا يجوز تجاوزها ومن تجاوزها فهو مبتدع أو ضال أو زنديق أو خارج من المذهب حتى وصل الحال إلى التكفير للأسف الشديد.
ومع ذلك نجد العقلاء والذين هم على الفطرة من أي انتماء كان، يحترمون صاحب الخلق الحسن من غير انتماءهم ويبغضون ويُعرضون عن سيئ الخلق ولو كان من نفس انتماءهم ولذا ما ينقصنا هو الأخلاق .. الأخلاق .. الأخلاق.
فالأخلاق في الحقيقة هي الوحدة ولا نبالغ لأن أي اختلاف فكري كان أو غيره بالأخلاق نستطيع إذا لم نتفق حوله أن نتعامل بأخلاق مع بعضنا البعض وهناك طرق سليمة لتفادي الاصطدام والنزغ الشيطاني عرضه القرآن الكريم في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) وفي قوله سبحانه: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
فالوحدة هي التفهم لوجهة نظر الآخر المسلم وفهم لمشاكله وتفكيك لعقده النفسية وليست كلاماً رناناً ومؤتمرات دولية وندوات صورية وخطب جمعة ومحاضرات بعيدة عن العمل.
فالكتب والأفكار المذهبية التي يهتم بها كل مذهب وطائفة ويسعى لنشرها وتعميمها هي تراث سيء للغاية وعامل من عوامل الفرقة والتنافر والتباغض حيث أن في هذا التراث ما ليس بتراث إسلامي ولا يصح لأن الإسلام دين الله تعالى الذي نهى عن التفرق فيه بقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) وبقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) وبقوله: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وبقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) أما التراث الذي فرقنا فهو تراث بشري وضعي في الحقيقة وناتج عن فهم للدين بسطحية أو حسب السياسة والأهواء ولهذا فرق الأمة وشتت شملها وأوغر صدور أبنائها واللافت أن التعصب لهذا التراث طغى على حساب الاهتداء بالقرآن الكريم الذي شكَّل هذا التراث عوائق وسدود لفهمه وتأمله وجعل من شكل لنا صورة غير لائقة للنبي (ص) فيها إساءة بالغة له إساءة يعتبرها كثيرون من المسلمين ديناً وسنة وسيرة له (ص) فشوه صورته عند المسلمين وعند غير المسلمين وكذبوا عليه ووضعوا الأحاديث باسمه واختلقوا بعض الأحداث في سيرته.
هذا التراث يمثل اليوم عائقاً كبيراً في طريق الوحدة كونه يضلل ويفسق ويبدع ويكفر المخالف المسلم ويتعصب وهذه المشكلة حتى من يعقدون مؤتمرات للوحدة الإسلامية هم يعتقدون تكفير الآخر وتضليله ويصدرون الأحكام الكفرية بحقة على شكل روايات وتراث فالمشكلة أنهم لا يدخلون إلى القرآن ولا ينظرون إلى النبي إلا من الأبواب المذهبية.
القرآن الكريم يعرض تجارب أهل الكتاب
ذكر الله تعالى لتجارب أهل الكتاب قبلنا من اليهود والنصارى في خلافاتهم واختلافاتهم وادعاء كل منهم الحق ومحبة الله تعالى له، وأنهم لم يختلفوا إلا بعد العلم والبينات بغياً بينهم وهو ما هو حاصل بين أبناء الأمة الإسلامية قال تعالى: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا هو ما يقوله الكثير أن الهداية أن تكون سنياً أو تكون شيعياً وقال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وهذا يشبه كثيراً ما هو حاصل حيث نسمع كلاماً كثيراً أن الجنة للمؤمنين ولكن لا يحصل المرء على الإيمان إلى بانتمائه لطائفة معينة وكلها أماني ودعاوي بدون برهان وكم نسمع أن هذه الطائفة ليست على شيء وهذه الطائفة تقول على الأخرى كذلك والكل يتلوا القرآن ويقرأونه والخلاصة كما قال تعالى في أهل الحق: (* بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا ما يوحي به البعض وكأن النبي (ص) سنياً أو شيعياً متجاهلين قضية الاتباع العملي والتولي الصادق له (ص).
وهنا فإن مسألة التقريب بين المذاهب لا تجدي لأن المشكلة باقية والاختلاف قائم وسرعان ما يطفو على السطح ناسفاً جهود التقريب تلك ولأن كل طرف لم يذعن للخطوط الإسلامية العريضة وبل يتمسك كل طرف بما يراه حقاً سواء تديناً أو تعصباً وما من سبيل لحل هذا الإشكال وللخروج من هذا المأزق إلا بالاعتراف بتعدد وجهات النظر وتنوع الفهم ونظر المختلفين لبعضهم البعض بما يجمعهم ككل وهو أنهم مسلمين، واقتناع كل الأطراف أن كل معارضة ونقد لأي فكر ينبع من فكر مخالف، وأن كل من يرى سوءاً في الآخرين، الآخرون يرونه بنفس السوء أو أكثر سوءاً، وليس من السهل أن تتعاقب أجيال وصولاً إلى جيلنا وزماننا هذا والناس يستقون اعتقاداتهم ويتوارثونها، ونأتي فجأة نتجنى عليهم ونلومهم ونلغي اعتقاداتهم وهم منذ إطلالتهم على الدنيا ومنذ نعومة أظافرهم ومعرفتهم يمينهم من شمالهم، لم يعرفوا غير ما اعتقدوا في بيئة أحكمت سطوتها على عقولهم سواء بيئة شيعية أو سنية أو ما كانت.
وبما أن الحال هكذا فما من أمر يجمع كلمة المسلمين باستثناء من في قلوبهم مرض هو توظيف كل طائفة لفكرها وعقيدتها بهدف بناء الأمة ومواجهة أعداءها في مختلف المجالات مواجهة مفتوحة، وبشكل يراعي وضع الأمة وحاجتها وظروفها وما يتطلبه الحال من حكمة، وبإدراك ووعي وبصيرة وتعامل أخلاقي حتى لا يكون في صالح الأعداء بشكل أو بآخر، وأي فكر أو عقيدة يشكلان عوائق في مسيرة البناء والمواجهة، وتخدم أعداء الأمة ويهيئا النفوس والساحة لهم أو يفرضا قيوداً على الناس في الحركة أو يشكلا عوامل هزيمة أو محل اختراق للقلوب، فيجب إزالتهما والتخلي عنهما والتبرؤ منهما ليس على أساس انقياد لفكر آخر أو مذهب بل لأن هذا الحق من عند الله بشهادة الواقع المنتصر والصامد والمقاوم والمجاهد الذي يقدم المصاديق للآيات القرآنية، فليس في دين الله إلا ما يؤهل للنصر فلا يوجد فيه خلل ولا ما يجعله عرضة لاستغلال الأعداء.
وحينها فقط يلتف المؤمنون من كل مذهب وطائفة حول الإيمان العملي الجهادي وتترسخ العقيدة المنبثقة من صميم الحق، ولن يروا اختلافاً ولا شقاقاً وستذوب بينهم كل الفوارق والمسميات، وأي فكر أو عقيدة تتفق معهم في هذا الهدف النبيل فأصحابه منهم وإليهم، ومن افترق عن هذا الهدف فهو المخطئ الضال المخذول وإن كان من صلب الفكر الواحد ومن نفس المذهب، فالشيعي والسني الذي يجمعهم الهدف السابق ذكره هم أولى ببعضهم البعض من الشيعي للشيعي الخانع العميل ومن السني للسني الخانع العميل وليكن عندهم سواء من وافقهم أو اختلف معهم ما دام ليس عدواً لهم، فعدوهم وعدو من خالفهم من المسلمين هو المنصوص عليه في القرآن الكريم اليهود والنصارى وكل من ذكرهم القرآن، وليس من اختلف معهم عدوهم وليسوا عدو من خالفهم، وليس لهم من عدو من المسلمين أحد سوى من يتولى أعداء الأمة من اليهود والنصارى لأن هذا المتولي أصبح يهودياً أو نصرانياً بنص القرآن وحكمه حكمهم، وسواء كان هذا التولي بتقديم الخدمات باسم الدين أو تحت أي عنوان من عناوين السياسة.
لأنهم ينظرون إلى المعركة كما عرضها القرآن الكريم وكما هي على أرض الواقع معركة أهل الكتاب من اليهود والنصارى على الإسلام وهم المسلمون ضد المعتدين من اليهود والنصارى ومن والاهم وتحالف معهم ولا مجال ديناً للتفرقة والاختلاف في ذلك بل التخندق في خندق واحد وهنا لا بد أن نحمل بعضنا البعض على السلامة والتماس الأعذار والصدق العملي في الوحدة باعتبارها مبدأ وفريضة وليست حلول وسطية وليس شرطاً تفاعل كل الأطراف لأن ذلك لن يحصل وأن نترك التعامل السلبي فيما بيننا وكأننا في حلبة مصارعة كلٌّ يريد الغلبة على الآخر مع أننا مغلوبين من أعدائنا على السواء وأن نعيش هَمّ الأمة والبشرية الحائرة وأن نحرص على تقديم الهدى والحق لا تقديم أنفسنا وأفكارنا ومذاهبنا وأن نتعافى من مرض الاستقطاب والاستيعاب للغير في القوالب الصغيرة والضيقة وأن نتخلى عن الشعور بالكمال وامتلاك الحق حصرياً وأن نبتعد عن احتكار الفهم واستعلاء الفكر وعن كل الصفات والسلوكيات وأمراض الباطن كالعجب واحتقار الآخر والسخرية منه والاستهزاء به حتى نكون مهيئين للعون الإلهي والتوفيق الرباني ونصبح بنعمة الله إخواناً قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
ابتعادنا عن رسول الله (ص) خالف بين قلوبنا
العجيب أن اختلافنا في أشخاص من بعد النبي (ص) وتناسينا النبي نفسه وكأنه دوره مقتصر في تحديد من يخلفه بعده فقط وكل طرف من الأمة تشبث بشخص معين وتطورت القضية إلى أن جعل البعض ديدنهم أهل البيت عليهم السلام والآخرون الصحابة رضوان الله عليهم وتركنا رسول الله (ص) الذين أهل البيت هم أهل بيته وما نالوا الشرف إلا بقربهم منه مع صلاحهم، والصحابة هم أصحابه وما نالوا الشرف بحسن صحبتهم إياه فأهل البيت يؤدون إلى النبي (ص) والصحابة يؤدون إلى النبي (ص) فلماذا لا نختصر الطريق ونعود إلى الأصل ونلتف حوله ونرتبط به وبأخلاقه وسيرته وقيمه ومبادئه؟ لماذا لا نتكلم عن أصحابه مع كلامنا عن أهل بيته وخصوصاً أن هناك صحابة كثيرون نتفق حولهم منهم من استشهد في عهد النبي (ص)؟ لماذا نغيب دورهم وكأن ليس لهم أي دور وهم من نصروه وجاهدوا بين يديه وتساقطوا شهداء في الغزوات دفاعاً عن الإسلام؟ ولماذا لا نتكلم عن أهل البيت وفضلهم ودورهم الريادي والتاريخي وتضحياتهم واستشهادهم في الإصلاح الداخلي في الأمة؟ لماذا جعلنا الحديث عن أهل البيت وكأنه إساءة إلى الصحابة والحديث عن الصحابة وكأنه انتقاص في حق أهل البيت؟ ومسألة الخلاف في قضية الخلافة وفي الأفضلية فلنحترم بعضنا البعض ونعرف أن هناك وجهات نظر في القضية وننشغل أكثر بما نحن متفقون حوله وننبذ التكفير الذي يطالنا جميعاً ويُشكل تهديداً للأمة سنيها وشيعيها على حد سواء وأن نتق الله ونخافه ونتذكر أنه لن ينفعنا عند الله يوم القيامة إلا عملنا الصالح وبذلنا وتسامحنا وإشاعة المحبة والإخاء والوئام وتولي بعضنا بعضاً يقول تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وبكظم الغيظ وبالعفو عن الناس وعن بعضنا البعض يقول تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) والإعراض عن الجاهلين المتعصبين من أي فئة كانوا يقول تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
المحور الثالث: النزغ الصهيوني
عادة اليهود مع أنبياءهم حين يجيئون بما لا تهوى أنفسهم يكذبونهم أو يقتلونهم قال تعالى مخاطباً اليهود: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) فكان تعاملهم مع أنبيائهم بهذا الشكل تكذيب وقتل وهم منهم من بني إسرائيل فكيف تعاملهم مع النبي الخاتم (ص) الذي جاء من العرب، ولذا فإن مشكلة اليهود هي مع النبوة والرسالة ولكنها تكون أكبر حين يكون الرسول من غيرهم، ومن هنا فمشكلة اليهود كانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتاريخ مليء بالحوادث والمواقف من اليهود تجاه رسول الله (ص) ومحاولاتهم المتكررة لاغتياله وتشويه صورته وتآمرهم المستمر عليه وعلى دينه وأمته وتحريضهم وتأليبهم المشركين والأعراب لقتاله وإبادة أتباعه.
وقد شكّل البغض اليهودي لرسول الله (ص) عاملاً مشتركاً بينهم وبين المنافقين الذي يبغضونه أيضاً ويصدون عنه كما تفعل اليهود يقول تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) والمنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ولم يؤمنوا برسول الله شأنهم شأن اليهود في عدم الإيمان به يقول تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ولذا نجد التحالفات والولاء بين اليهود وبين المنافقين على المسلمين يقول الله تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) بل ووصل الحال بالمنافقين إلى اعتبار اليهود إخوة لهم يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)
اليهود والمنافقون والتفريق بين المجتمع
من صفات اليهود أنهم يفرقون حتى بين المرء وزوجه قال تعالى: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) فالتفريق سمة بارزة فيهم فهم خبراء تفريق وإشعال حروب أهلية وتشويه وتحريض وتلبيس الحق بالباطل ولنا في مواقفهم في حياة النبي (ص) خير دليل حيث لم يتحملوا الألفة والمحبة بين الأوس والخزرج الذي أصلح الله بينهم به (ص) فذابت كل الثارات والحروب التي كانت بينهم، وسنذكر موقفين نتبين منهما النزغ اليهودي ودور المنافقين في إيغار الصدور وتفريق الصفوف وإشعال الفتن والحروب الأهلية ونستشف منه أيضاً كيفية التعامل السليم والصحيح مع هذه النزغ الشيطاني والدور الإبليسي.
الموقف الأول
عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: (مرَّ شاس بن قيس -وكان شيخاً (يهوديا) قد بقي على جاهليته، عظيمَ الكفر، شديدَ الضغن (الحقد) على المسلمين شديد الحسد لهم – على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من أُلفتهم، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة -الأوس والخزرج- بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا قالوا فيه من الأشعار .. وكان يوم بُعَاث قبل الهجرة بثلاث سنين يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جَذَعَة (حربا)، وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ .. موعدكم الحَرَّة (مكان في المدينة)، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: (يا معشر المسلمين! الله، الله .. أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً ؟!) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عز وجل عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آَمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وأنزل في شأن أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
الموقف الثاني
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:كسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فاستثمر المنافقون ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ما بال دعوى الجاهلية؟) قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: (دعوها فإنها منتنة)
ففي الموقف الأول حاول يهودي أن ينزغ بين الأنصار لما غاظه اجتماعهم وألفتهم وهو شعور كل اليهود على المسلمين بشكل عام حتى عصرنا الحاضر يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)
وقد وصف رسول الله (ص) موقف من يتأثر بالنزغ اليهودي ويُستفّز على إخوانه المسلمين بالموقف الجاهلي وبالدعوى والحمية الجاهلية ونهاهم عن ذلك وذكرهم أنه ما زال بين أظهرهم كما قال تعالى في الآيات التي نزلت في ذلك الموقف، وفي الموقف الثاني الذي تجلى فيه دور المنافقين في اقتناص الفرصة للتفريق بين المهاجرين والأنصار ومحاولة إشعال الفتنة بينهم – كون نفسيتهم ونفسية اليهود واحدة فيما يتعلق بالرسول وبالإسلام والمسلمين – وتجلى دورهم بالتحريض على الاقتتال وإثارة الفوضى ووصف دعوات التعصب بالجاهلية وقدم نصيحة وتوجيهاً عظيماً وعلاجاً نافعاً بقوله: (دعوها فإنها منتنة)
وفي التاريخ المعاصر ما يشهد على محورية تأثير الرسول (ص) وتحسس اليهود حيث كانت العداوة الصهيونية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة للعيان فحين عندما دخل الصهاينة القدس عام 1967م هتفوا (محمد مات خلف بنات) (حطوا المشمش عتفاح جيش محمد ولى وراح) وصاحوا (يا لثارت خيبر هذا يوم بيوم خيبر) وقال أول رئيس وزراء لإسرائيل بن غوريون: إن أخشى ما نخشاه أن يظهر في العالم العربي محمد جديد. ويظهر من خلال كل ذلك أنهم مرعوبون من ارتباط الأمة برسول الله محمد (ص) ولذا يعتبرونه حياة المسلمين وهو كذلك وعزتهم وقوتهم وقائدهم وحين استطاعوا هزيمة العرب والمسلمين في فلسطين وقبلها حين استعمروا واحتلوا أغلب العالم العرب والإسلامي فظنوا أن الأمة فقدت ارتباطها برسول الله (ص) وأنه مات في قلوب أبنائها، أو يريدون الإيحاء بذلك ويبثوا اليأس والإحباط في أوساطها وتمييع هويتها والقضاء على أمل توحدها.
ولأنهم يعرفون أن الأمة لن تتوحد على حول أحد إلا حول رسول الله (ص) ولن تذوب الاختلافات والتشتت في الأمة إلا به (ص) تماماً كما حصل للأوس والخزرج في أول الأمر.
واليوم ينفخ اليهود ويصنعون بشتى الوسائل وبكل إمكاناتهم وعلى كل المستويات في نار الفرقة تارة باسم المذهبية وتارة أخرى باسم الطائفية أو القومية فتراهم يركزون على مسألة السنة والشيعة ويعيدون النزغ كما فعلوه بين الأوس والخزرج الذين عادوا إلى رشدهم فينزغون بين السنة والشيعة في الإعلام وعلى مستوى السياسة ويثيرون النعرات الطائفية والعرقية وفي الحقيقة ليست مشكلة اليهود مع السنة أو مع الشيعة بل هي مع المسلمين بمختلف انتماءاتهم، مشكلتهم مع أتباع محمد رسول الله (ص) ولذا يعمدون إلى التفرقة ويساعدهم في ذلك إخوتهم من المنافقين سواء من العرب أو من متلبسي الإسلام وبالخصوص الحكومات العملية لهم فتراهم ينشرون ثقافة الكراهية بين المسلمين، ويستكثرون علينا الإخاء والمحبة فيما بيننا وتولي بعضنا بعضاً والخطر أنهم بخبثهم أصبحوا على مستوى السياسة في ما يُسمونه بالشرق الأوسط يستخدمون مصطلح السنة والشيعة والعالم السني والعالم الشيعي وكأنهما دينان وليس مذهبان يجمعهما الإسلام وتارة يعمدون إلى المصطلح القومي من عرب وفارسيين والأخطر أنهم يوحون وكأن السنة والعرب حلفاءهم ممثلاً في دول الخليج ومصر وتركيا وباقي الدول مقابل الشيعة والفارسيين الإيرانيين الذين يصورون أنهم حلفاء روسيا والصين وفي الحقيقة أن العملاء صنف واحد بغض النظر عن انتماءهم المذهبي أو الطائفي أو القومي كما يحاولون تصوير السنة على أنهم تكفيريون ودواعش – وهذا ما يقع فيه الكثير ويخلطون في الأمر حينما يعممون أو يتهمون من يخالفه في الرأي بهذا الاتهام والمفترض تنزيه السنة من ذلك لأن داعش هي مشروع مشترك بين الصهيونية ومنافقي العرب ومتلبسي الإسلام من الأنظمة العميلة.
وللأسف يستجيب البعض من السنة والشيعة لدعوات الجاهلية ويشوه بعضهم بعضاً والصهيونية تشوه الإسلام ككل وتستغل ما يجري بينهم لتشويه الإسلام.
لهذا فالعودة إلى رسول الله وأخلاقه وسيرته الصافية البريئة مما نُسب إليها وسنته الجامعة غير المفرقة النظيفة مما كُذب عليه فيها هي المخرج والمولد النبوي فرصة ذهبية في ظل الظروف الراهنة للملمة الجراح والارتباط الوثيق برسول الله (ص) وفرصة أيضاً لتقييم المنافقين والعملاء وفهم النزغ الصهيوني الشيطاني بين أبناء الأمة الواحدة قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)
والله من وراء القصد