صمود وانتصار

لمـاذا تفاجئنـا البربريـة مـن وراء الشعـارات الدينيـة؟

أحمد الشرقاوي

أنا لا أعلم كيف ينتظم الكون، ولا أدري إن كان الإنسان هو من يصنع مصيره أم أن القضاء والقدر هو من خطه له في أم الكتاب منذ الأزل بما سبق في علم الله، وأن كـلّ منّـا خلق لما هو عليه ولا يملك لتغيير ذلك سبيلا.. لكني على يقين أن الزمن هو الهامش الوحيد المتاح للإنسان التفكير فيه لمعرفة سر وجوده، وفهم أزمات واقعه، والبحث لها عن حلول ناجعة من مدخل فكري ينعكس تغييرا على نظرته للأمور وممارساته في علاقاته مع القيمة والثروة وبينهما السلطة، في الزمن المتاح له العيش فيه.

منذ ضياع فلسطين، والمواطن العربي يتعامل مع نمطين من الخطاب مختلفين.. نمط الدعاة السلفيين الذين كرسوا خطاباتهم للشعارات الطوباوية البعيدة عن الواقع بلغة الوعظ الخشبية من موقع الوصاية على القيم والسلوك، استنادا إلى قوالب إديولوجية مغلقة تدعو إلى الحفاظ على الهوية المذهبية والوفاء لذاكرة السلف الصالح.. ونمط المثقفين “الحداثيين” الذين لا يتقنون غير فن الشكوى والاستنكار والإدانة السياسية التي تعبر عن خطورة المأزق وعمق العجز بأسلوب الإملاء والتلقين، مع الدعوة إلى ولوج عصر الحداثة في غياب الشروط الضرورية لذلك..

ومعضلة الخطابين معا، الأصولي والحداثي، أنهما لم يقدما حلولا عملية تحرر الناس من الإحساس بالنكبة، وترفع عنهم معاناة الشعور بالنكسة، وتضع نصب أعينهم رؤية واضحة للتّغيير تبدل حال البأس والهزيمة، وتحسّن من ظروف عيشهم وتفتح لهم أبواب المستقبل على مصراعيها.. أو بمعنى أكثر وضوحا، أن أي من الخطابين لم ينجح في مد جسر العبور الآمن بين الواقع كما هو والواقع كما ينبغي أن يكون، أو إن شأت مزيدا ما الدقة قلت، إذا كان واقعي رديء، فالعيب لا يكمن في الزمن بل في نفسي، والسؤال الذي يجب أن أطرحه هو: – كيف يمكن أن أتغيّر مما أنا عليه وأصبح ما أطمح لأن أكونه؟..

هنا ستكتشف أنك عثرت على مفتاح الحل السحري، وأصبحت لديك قناعة راسخة بأن الذي يجب أن يتغير هو أنت لا الواقع، لأن الواقع هو “الوقت” المتاح لك العيش فيه، ومهما فعلت، فلن تنجح في تغييره من دون أن تتغيّر أنت أولا.. عند هذا المستوى من الإدراك ستفهم بالإحساس معنى قوله تعالى، ولا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.. والفرق شاسع بين الفهم بالمعرفة والإدراك بالتجربة.

هذا يعني، أن الإنسان سيكون مضطرا للاعتراف بالواقع كما هو، لا رفضه أو الهروب منه لأنه لا يمثل النظرة المثالية التي لدى أدعياء امتلاك الحقيقة عن كيف ينبغي أن يكون، ومن ثم محاولة فهمه بلغة العصر لا بعقلية القبيلة زمن الجاهلية، وبعد ذلك العمل على تغييره من خلال تغيير نمط التفكير وأسلوب المواجهة معا.. وهذا يحتاج إلى ثورة أفكار من نوع جديد لمّا تبدأ بعد.

نقول هذا، لأن طريقة الدعاة والمثقفين في محاولتهم الفاشلة لتشكيل الرأي العام خلال العقود الأخيرة، ولا نتحدث عن القرون الطويلة، أنتجت كل ما نراه اليوم من انهيار وتفكك وخراب، لأن لا أحد كان يعرف كيف يمكن أن يقدم للناس حلولا عملية تساعدهم على التعامل مع أزماتهم وحل مشاكلهم المستعصية، ما فاقم من تزايد الهوة بين الوعي بالحقيقة وهشاشة الواقع، فعاشت الأمة في دوامة الماضي محاولة استحضاره بكل التفاصيل المملة من الملبس إلى الديكور، ففرّطت بذلك في الزمن الحاضر المتاح وأضاعت المستقبل أيضا.

*** / ***

التجربة تقول، أن الصراع في العالم العربي كان دائما يدور حول الأفكار بين القديم والجديد لكيّ الوعي والتحكم في الرأي العام، وكانت الحرب محتدمة بين السلطة التي تحتكر الخطاب الديني والسياسي، وبين المثقف الذي لا يسمح له بالتفكير إلا في حدود المساحة المتاحة له من قبل السلطة، باعتبارها هي من تمتلك الشرعية الرمزية والمشروعية الفكرية لإنتاج المعنى الذي يحفظ الاستقرار السياسي ويضمن الأمن الروحي للرعية.

هذا الواقع، لم يولّد مواطنين أحرارا ومنتجين، بقدر ما ولّد قطيع مسلوب الإرادة يعيش كالمسحور في حظيرة الراعي.. الأمر الذي غيّب الوعي، فاستحكمت الأزمة، واستفحلت كل مظاهر العجز وما أنتجه من جهل وفقر وتخلف.

ومع ذلك، وبرغم كل ذلك، استمر خطاب الدّجل بأسلوب الاستلاب، وظلت شعارات الوهم تبيع للناس قيما مثالية لا يعرف أحد كيف يمكن أن يطبقها في مجتمعات تعيش خارج التاريخ عالة على الحضارة، تستهلك ما لا تنتج، تردد كالببغاء أفكار مستوردة من ثقافة القبور، ترفض إعمال العقل كأداة للفهم وطرح سؤال المعرفة كسلاح للتغيير، تستكين مع الخيبة والهزيمة، تقبل بالإهانة، ولا ترى أملا في النجاة من الكارثة إلا إذا بعث الله مخلّصا جديدا، في زمن لم يعد فيه للرسل والأنبياء من دور، ولا للخوارق والمعجزات من مكان، بعد أن اكتمل الإسلام بنزول القرآن، وأصبح الإنسان مسؤولا عن حياته ومصيره ومستقبل عياله.

وبدخول العالم عصر العولمة وثورة الاتصالات وانفجار المعرفة في العالم السّيبراني، لم تعد مهمة الفكر تقتصر على النقد من خلال آليات التفكيك والتحليل وإعادة التركيب لمساعدة الناس على تطبيع العلاقة بين الأزمنة الغابرة والزمن الحاضر.. لم تعد مهمة التفكير هي إعادة إنتاج مقولات تراثية قديمة بلغة مخاتلة جديدة، وتقديمها باعتبارها تمثل الحل من أجل مستقبل أفضل.. صارت الأفكار تطير بلا أجنحة عابرة للحدود والمحيطات والقارات دون استئذان، وأصبحت مهمة الفكر هي تحرير الإنسان من الأفكار المسبقة والمغلقة للانفتاح على الآخر المختلف، عملا بقوله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) الحجرات: 13..

لكن ما حصل، أن المواطن العربي اكتشف فجأة هشاشة منظومته القيمية والمفاهيمية، وضعف أسلحته المعرفية التي لا تخوله المواجهة الثقافية الكونية في معركة لا يعرف كيف يخوضها من دون مراجعة عميقة لتاريخه ودينه وكل ما خزّن في عقله من زبالة الثقافة.. وأصبحت مهمة المثقف الجديدة تتمثل أساسا في هدم أصنام المفاهيم القديمة، ودعوة الناس إلى الانخراط في قواعد معرفية جديدة من شأنها تغيير اللعبة من جذورها، وهذه حرب غير متماثلة، تتطلب جيلا جديدا من المفكرين الثوار، وأنماطا مغايرة من التفكير، ومناهج جديدة من التشخيص والتحليل والشرح والتفسير والتأويل..

وفي لجة هذا الضياع، خرج الإرهاب من رحم الوهابية في أبشع صور البربرية، وخلافا لكل الحسابات التي كانت تقول، أنه من الممكن بعد تحقيق الأهداف المرجوة القضاء عليه بالقوة، تفلت المارد من السيطرة والتحكم، وانطلق يؤسس لنفسه زمنا جديدا لا تضاهيه فيه قوة، يعيد تجربة اللحظة الأولى التي أسست فيها مملكة الرمال امبراطوريتها النفطية الهائلة وادعت حقها في زعامة الأمة الإسلامية من دون شرعية دينية أو سياسية، لا لشيئ سوى لأنها تحتل مقدسات المسلمين.

واستفاق العالم أجمع على هول الكارثة حين وصل الإرهاب إلى قلب أوروبا وأمريكا، فبدأ الناس يتساءلون عن مصدر هذا الجنون، للوقوف على البدايات التي تكشف حتما الدوافع والغايات.. هل ما يفعله الإرهاب له أصل في القرآن أم في التراث؟.. ثم لماذا يقولون إن الإرهاب هو ثورة “سنية” العقيدة لمواجهة ظلم “الشيعة” وهو يقتل الجميع سنة وشيعة ومسيحيين وغيرهم؟..

*** / ***

أدرك العالم أجمع اليوم أن “السعودية” هي مصدر هذا الشر، وتعالت الأصوات في أمريكا والغرب بضرورة أن تتحمل الولايات المتحدة حليفة “السعودية” مسؤوليتها وتوقف هذا الشر قبل أن يستفحل ويصبح من المستحيل مواجهته، وركز عديد الباحثين والكتاب على ضرورة تجفيف منابعه الفكرية المتمثلة في العقيدة الوهابية التي يدين بها نظام ‘آل سعود’، بالإضافة إلى تجفيف منابع التمويل بموازاة المواجهة الأمنية والعسكرية لضمان هزيمة الإرهاب بشكل كامل ونهائي، لأنك إذا لم تقطع رأس الأفعى الولاّدة، فستظل تنفث سمها القاتل في كل مكان إلى ما لا نهاية.

هكذا بدأ الإرهاب وهكذا يجب أن ينتهي، ولا توجد وصفة سحرية ثانية للقضاء على هذا الشر، لأن الإرهاب لا يقبل الحوار، وكون “السعودية” تحاول اليوم التمييز بين “الوهابية” باعتبارها عقيدة سلفية، والإرهاب الذي يتغذى من فكر الخوارج الذين خرجوا قديما عن إجماع الأمة المتمثل في “طاعة ولي الأمر” وفق ما تشير إلى ذلك كتب التراث “الأصيلة” كما يزعم كهنة وكتبة “السعودية”، فالأمر لا يعدو أن يكون حملة تضليلية للتفلت من المسؤولية الأخلاقية والجنائية..

كما وأن ادعاء مملكة الشر والإرهاب أنها تمثل المركز الأساس للإسلام بحكم رعايتها لمقدسات المسلمين، كذبة كبرى لا يصدقها إلا غبي أو متخلف عقليا.. لأن الله حسم في هذا الأمر زمن قريش حيث قال تعالى بصريح العبارة (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) التوبة: 19، فأصبغ بذلك الشرعية على “المجاهد” وجعله أرقى درجة وأحق بالقيادة.

أما استناد فقهاء الوهابية حق الولاية على المسلمين استنادا إلى نظرية “طاعة ولي الأمر” في العقيدة “السنية” لتأصيل شرعية حكم ‘آل سعود’، فقول باطل مردود على أصحابه لأسباب أهمها، أن ولاية أمر المسلمين تستوجب حصول قبول المسلمين على أساس مبدأ الشوى بمعناه القرآني الواسع، وهو ما لا أصل ولا فصل له اليوم بالنسبة للحالة “السعودية”، لا في الدين ولا في الواقع السياسي القائم في الدول العربية والإسلامية، لأننا لم نسمع أن استفتاء جرى تمت بموجبه موافقة المسلمين على تولي ‘آل سعود’ لشؤونهم، بل مثل هذا الاستفتاء لم يتم حتى على مستوى الشعب “السعودي” في ما أصبح يعرف بالدولة الوطنية بمفهوم علم الاجتماع السياسي.. فعن أي ولاية يتحدث هؤلاء المزوّرون؟..

*** / ***

ما أحوجنا اليوم للعودة إلى كتاب الله لمعرفة الحقيقة حول هذا الأمر، ففيه توجد نقطة البداية ونقطة النهاية، والزمن هو المساحة الممتدة بينهما التي تدور فيها تجارب الأمم والشعوب، تتكرر من أمة إلى أمة، ومن جيل إلى جيل إلى ما لا نهاية.

في القرآن، يتحدث الله عن “العهـد”، ويخبرنا أن هذا العهد لا يستحقه كل من هب ودب واعتدى على إرادة الناس وانتزع منهم السلطة بالقوة، وحيث أن العهد كان مسؤولا في رؤية الله للكون والخلق، فلا يمكن أن يناله المجرم الظالم ويدعي تمثيل الإسلام ويطالب بالحق في الزعامة على المسلمين تنفيذا لإرادة الله في الخلق كما يزعم كهنة الوهابية وسدنة الإخونجية ويروج لذلك مثقفو الزيت دون علم وفهم..

وحده إبراهيم عليه السلام استحق هذا الفضل فنال عهد الله لأنه كان بمثابة أمة في رجل، فتح الله له ملكوت السماوات والأرض فاطلع على ما لم يطلع عليه نبي ولا رسول من حقائق وأسرار، ووصفه الله بأنه خليله، والخليل لا يعني الصحبة ولا الرفقة كما يعتقد أصحاب الظاهر لأنها لا تجوز مع الله جل شأنه كما أكد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، بل يعني حرفيا “الخلـة”، كأن تخلط في كأس أبيض الخمر بالماء، فلا تستطيع بعد ذلك تمييز الخمر من الماء.. والخمر في قاموس العرفان يعني أن تعشق الله حد الثمالة.. ومن له تفسير آخر من أصحاب مدرسة بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب غير هذا الذي أوردناه، فليبحث له عن إله بين البقر، على سنة السامري الذي استغلّ صعود موسى عليه السلام إلى الجبل لينال عهد ربه، فصنع لليهود عجلا له خوار وقال لهم هذا ربكم فاعبدوه..

ومعنى المعنى، أن “الخلـة” يا سادة، لا تعني “المداخلة” و”الملاصقة” أو “الحلول” و “الاتحاد” الذي يتحجج به الأصوليون في مواجهة هذا المفهوم الذي لم يجدوا له تفسيرا غير الهروب من الخوض فيه، لأن المجسمة أصحاب الظاهر لا يستطيعون فهم معنى “لا إله إلا الله” التي تفيد أن لا وجود لشيء مع الله أو من خارجه، وأن الكون من عرشه إلى فرشه هو الله وحده دون سواه، والاعتقاد بوجود الإنسان مع وجود الله هو عين الشرك بالمفهوم الغليظ، لأنه لا وجود في هذا الوجود سوى واجب الوجود، وبالتالي، إذا كنا نعتقد أن لا موجود في الوجود إلا الله تعالي دون سواه، فكيف يمكن أن يحل الموجود في شيء غير موجود؟.. وهذا هو السؤال الذي لا يستطيع أن يجيب عليه عقل مغلق مقلد.. ونكتفي بهذا القدر حتى لا نذهب بعيدا عن الموضوع.

وأعود فأقول، أن في القرآن واقعة جميلة تجسد مفهوم الإمامة المقترن بـ”العهد المقدس” في أبهى صورها، حيث يقول تعالى: (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأثمهن، قال إني جاعلك للناس إماما، قال ومن ذريتي، قال لا ينال عهدي الظالمين) البقرة: 124..

هذا يعني، أن الواحد الدائم انكشف لإبراهيم الخليل، فتجلى فيه وفي ذريته من خلال “العهد” إلى يوم يبعثون، وجعل عهده مشروطا بالعدل، وحرمه على الظالمين، ومنذ ذلك الحين، وتجربة إبراهيم الخليل تتجدد، وكما دعا إبراهيم فاستجاب له ربه، ظل العهد ينتقل من أمة إلى أمة والدعاء يستجاب من جيل إلى جيل كلما توفر شرط العدل الذي بموجبه يستحق الناس شرف عهد الله، وكل الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء الصالحين الذين أتوا من بعده، ورثوا “العهد” وعكفوا على الدعاء..

حتى الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أوحى له الله باتباع ملة إبراهيم حنيفا، ولم يأمره بوضع سنة خاصة به، ولم يقل له أن يعين من يخلفه، أو أن يضع نظام للحكم لأمته تحت مسمى “الخلافة”، لأن الله تعالى جعل كل البشر خلفاء له في الأرض، يجري على أيديهم سنته ومشيئته ويمضي فيهم إرادته، وخص عهده بمن يجتبي من عباده الصالحين..

وقال له أيضا، يا محمد، إنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وأن المهتدي ليس اليهودي أو النصراني أو غيره، بل كل من اتبع ملة إبراهيم حنيفا فهو من المهتدين، وأكد له حقيقة قرآنية جامعة لكل البشر في شكل تساؤل يقول: – من أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا؟..

وبهذا المعنى، فلا يكون الإسلام إسلاما إلا حين يعمل على إحياء تجربة إبراهيم من خلال محنة محمد، ومعاناة عيسى، وغربة موسى عليهم السلام جميعا.. والذين يسعون اليوم لتشويه الإسلام ومحاربته من أبناء جلدته وعلى رأسهم ‘آل سعود’ لتسود الثقافة اليهودية – المسيحية، فإنهم في حقيقة الأمر يدمرون تجربة أبو الرسل والأنبياء والأئمة والأولياء عليهم الصلاة والسلام جميعا، لا لشيئ سوى لأنهم ظلمة فاسدين، لا حق ولا شرعية لهم في تولي شؤون المسلمين..

لمـاذا تفاجئنـا البربريـة مـن وراء الشعـارات الدينيـة؟