“المعارضة المعتدلة”.. إرهاب شرعي بغطاء أمريكي إسرائيلي سعودي
منذ بداية هذا العام، ولعدة عوامل أبرزها تصدع الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة تنظيم داعش، ظهر ما يسمى بـ«المعارضة المعتدلة» التي اختلفت حولها واشنطن وحلفائها، من حيث تعريفها ومهامها والأهداف المرجوة والسقف الزمني لبدء عملها، كذلك وفاة الملك عبدالله وصعود منظومة الحكم الجديدة في السعودية وانتهاء الخلاف الذي بدأه الملك الراحل بين نظامه مع الدوحة وأنقرة، واتفاق الثلاثة على توحيد جهودهم في سوريا على عكس ما كان يحدث منذ بداية الأزمة، فكانت جبهة النصرة الخيار الأمثل للأطراف الثلاثة لتحقيق أهداف متفرعة؛ الضغط من أجل تحجيم خطر داعش، الإسراع في جهود بناء قوة واستحواذ ميداني ضد النظام السوري، تقديم بديل آخر مطيع وتحت السيطرة، لكن في ثوب جديد؛ فخرج إلى الوجود ما سُمي بـ«جيش الفتح» الذي شُكل من «جبهة النُصرة»وعدد من الفصائل المتطرفة الأخرى ونسق مع «جيش الإسلام»، الذراع السعودية الأقوى في سوريا، وغيره من الفصائل على أساس وضع محاربة الجيش العربي السوري في الأولوية، وتقديمها على محاربة تنظيم داعش، وخلق طوق أمني يهدف لحصار دمشق، وهو ما بدأ في تحقيق إنجاز ميداني في مدينة إدلب، التي كانت معركتها التدشين الرسمي لـ”جيش الفتح”.
عقب إعلان الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن استراتيجية إدارته التي تهدف إلى عودة الهيمنة العسكرية الأمريكية إلى المنطقة بعنوان محاربة تنظيم داعش، طُرح تساؤل عن ماهية «المعارضة المعتدلة» التي من المفترض أنها ستحل محل قوات داعش ومثيلاتها من التنظيمات المتطرفة في محاربة القوات السورية لإسقاط نظام الأسد، فبعد عامين من الهزائم والإخفاقات المتتالية لما يسمى بالجيش الحر على يد النُصرة ثم داعش، وتقلص نفوذه وفقدان السيطرة على أرض المعارك في سوريا لحساب داعش أو النُصرة أو التنظيمات الأخرى، كان طرح مسألة تقوية ودعم «المعارضة المعتدلة» من جانب واشنطن وحلفائها إعادة اختراع العجلة بعد مضي ثلاث سنوات من تدفق الدعم المادي والعسكري والاستخباراتي على «الجيش الحر» ثم داعش والنُصرة، ناهيك عن مطاطية التعريف ذاته، واختلاف واشنطن وحلفائها فيما بينهم في تحديد من «المعتدل» الذي سيواصلون دعمه وتأهيله، ومن «المتطرف» الذي من المفترض محاربته وهزيمته، فعلى سبيل المثال لا الحصر يرى أمير قطر، تميم بن حمد، أن هناك أغراضًا سياسية في وصم بعض قوى المعارضة السورية بالإرهاب من جانب بعض الدول المشاركة في التحالف الدولي، ويقصد هنا موقف السعودية من جبهة النُصرة، وأيضًا مازال توصيف «المعارضة المعتدلة» مشوشًا وغير محسوم لدى أنقرة والرياض، فموقف الأولى المشبوه في دعم داعش بالعراق وسوريا، ونفض الثانية يدها من دعم «المعارضة» التي تحولت إلى «الإرهاب» خاصة بعد تبيان خطر داعش على نظام آل سعود في الأشهر الأخيرة، مما جعل مشاركتهم في التحالف الدولي مشروطًا بإسقاط الأسد، وإن اختلفوا في ماهية «المعارضة المعتدلة» التي ستضيف السعودية معسكرات تدريبها بأموال أمريكية، فيما ترى تركيا أنها أولى بذلك، خاصة في خبرتها كممر لعبور الإرهابيين إلى سوريا خلال الأعوام الأربعة الماضية، وما لهذا من علاقة في مسألة الطوق الأمني المراد من تركيا وإسرائيل داخل سوريا، والمولى تنفيذه لهذه الجماعات الإرهابية على تنويعها، والتي لا تتنازل عن ممارستها الإرهابية ضد المذاهب والأديان الأخرى، وآخرهم الدروز، الذين تعرضوا لمذبحة جبل السماق على يد مُسلحي النٌصرة.
من ناحية أخرى، جاء الحسم الإسرائيلي المعلن هذا العام بأن المقاومة في غزة ولبنان لا داعش أو القاعدة هما التهديد لأمن الكيان، تصديقًا على سياسة عملية مستمرة طيلة العامين الماضيين، لكن توقيت الإعلان عنه له دلالات مهمة تشير إلى أنه مع أي تطور ميداني على الساحة السورية لا تجد إسرائيل غضاضة من بذل مرونة أكثر في تدوير زوايا استراتيجياتها سواء في إعادة ترتيب الأولويات أو قرار التدخل غير المباشر، عن طريق دعم المسلحين المتمركزين على حدودها مع سوريا؛ فخلال الأيام الأسابيع القليلة المقبلة بحسب معطيات عديدة، ستشهد الساحة السورية واللبنانية معارك عسكرية كبيرة، قد تفوق نتائجها الاستراتيجية توقعات تل أبيب المتمحورة حتى هذه اللحظة حول تأجيل الصدام المباشر بينها وبين محور المقاومة، الذي تعتبره تل أبيب أخطر من داعش ومن التكفيريين على أمنها.
وبشكل عام في 2015م ولاعتبارات داخلية وأممية تمثلت في كون المسلحين المناهضين لداعش في سوريا أغلبهم مرتبطين بتنظيم القاعدة، العدو الرسمي الذي تخوض الولايات المتحدة حرب ضده وضد الإرهاب رسميًّا منذ 2001م، وكذلك تجريم مجلس الأمن العام الماضي دعم الدول لأي من تنظيمي داعش وجبهة النُصرة وعقوبة من يقوم بذلك بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم الذي يتيح استخدام القوة العسكرية، فضلت واشنطن أن تترك أمر دعم وإعادة تنظيم هذه المجموعات المسلحة المكونة من تنظيمات ومجموعات إرهابية في الجولان والشمال والجنوب السوري، وترتبط بالترتيب بتركيا وقطر والسعودية، ليخرج علينا منذ الربع الأول من العام الجاري ما سُمى بـ«جيش الفتح» المكون بالأساس من جبهة النصرة وجيش الإسلام، بالإضافة لبعض الفصائل الإرهابية الأخرى، وبدأ إعلام هذه الدول يسوّق لجيش الفتح بأنه «معارضة معتدلة» تحارب داعش والنظام السوري.
وبعيدًا عن تفكيك التناقضات السابقة، سواء المتعلقة بالشق الدعائي الذي يقدم القاعدة في ثوب الاعتدال، أو مدى توافق واشنطن مع دعم حلفائها للقاعدة، فإن الولايات المتحدة ذهبت مبكرًا إلى إعداد برنامج تدريبي لمقاتلين سوريين من فصائل معارضة «مدنية» تتحقق من خلفياتهم الاستخبارات المركزية ويدربهم خبراء البنتاجون.
هذا البرنامج المعلن عنه العام الماضي، قد سبقه شهور من التشاور والإعداد لإيجاد آلية تجعله نتاج قرار عدة دول يحظى بشرعية ما، كون أفراده سوريي الجنسية، دربوا على يد خبراء عسكريين واستخباراتيين أمريكيين وتمويل خليجي، وذلك بخلاف المجهود الأمريكي في دعم المسلحين السوريين بالجنوب السوري، حيث تقود الولايات المتحدة من الأردن غرفة عمليات عسكرية تعرب باسم «الموك» بالتعاون بينها وبين تركيا وقطر والسعودية وإسرائيل والأردن، كان هدفها دعم المجموعات المسلحة «المدنية» وعلى رأسها ما يعرف بـ«الجيش الحر» وعدة فصائل أخرى، لكن مع بداية العام الحالي، ومع إخفاق هذه المجموعات في تحقيق إنجاز على أرض الواقع، وشبهات التبديد والتبذير التي واجهتها واشنطن بتقليص الدعم المالي وإعادة تنظيم ورسم خطط عمل دعمها لهذه المجموعات فيما يشبه إعادة هيكله لاستراتيجية التدخل في سوريا، على ضوء متغيرات رئيسة منها انفلات داعش واستفحال خطرها، كان الخيار البديهي تسريع برنامج المعارضة المسلحة، ليس كبديل، وإنما كمكمل وخطة احتياطية تدفع بدور أكبر لواشنطن في سوريا بجانب حلفائها الإقليميين المتورطين في سوريا.
الشكوك حول برنامج تدريب «المعارضة المعتدلة» باتت مؤكدة في الشهور الأخيرة، ليس فقط فيما يتعلق بالجدوى والفاعلية في الميدان بسوريا، أو كتابع لفشل الاستراتيجيات الأمريكية هناك، لكن كونها وبإقرار الأمريكيين أنفسهم قد خلقت واقعًا جديدًا يقول: مساعي واشنطن إلى دور فعال في سوريا على أرض المعركة أصبح «ضربًا من الخيال ويكرس لفكرة أن السلاح الأمريكي في النهاية يذهب إلى المجموعات المتطرفة، وهو ما يعري مصداقية الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب»، حسب قول الجنرال لويد أوستن، قائد القيادة المركزية الأمريكية كما نشرتها مجلة فورين بوليسي قبل شهرين، وبحسب المجلة نفسها فإن الولايات المتحدة قد أنفقت 500 مليون دولار في تدريب وتسليح أربعة أو خمسة أفراد فقط ممن يطلق عليهم “المعارضة المعتدلة”.
هذا الفشل الذريع يعد منطقيًّا بالنظر إليه في سياق سلسلة الإخفاقات الأمريكية فيما يخص الأزمة السورية، على المستوى الاستراتيجي والتكتيكي، العسكري والسياسي، وهو لم ينتج منه فقط انفلات الحلفاء وبحثهم عن حلول تحقق مصلحتهم المباشرة، بعيدًا عن الرؤية الأمريكية وتتعارض معها في الظاهر ـ مثل جيش الفتح ـ لكن أيضًا خلقت هذه الإخفاقات الأمريكية فرصة مثالية لأن تتلقفها موسكو وتبني عليها تحركات سريعة وفعالة أفقدت واشنطن وحلفاءها المبادرة والمبادأة في سوريا وانتقالها إلى روسيا وحلفائها، حيث بلورة سريعة لتحرك روسي عسكري وسياسي في سوريا، وأيضا بلورة آلية أمنية واستخباراتية وعسكرية مشتركة تضم موسكو وبغداد وطهران ودمشق، مما يشير إلى أن المبادرة الروسية التي طرحت للنقاش قبل شهرين للحل في سوريا على أساس إشراك السعودية وسوريا ضمن تحالف تقوده روسيا لمحاربة داعش، تم تأجيل العمل بشأنها سواء لتلكؤ السعودية وتحفظاتها هي وحلفاؤها وتعويلها على فرض أمر واقع جديد في سوريا عن طريق جيش الفتح بالتعاون مع قطر وتركيا ـ وهذا أيضًا فشل حتى الآن ـ أو أن الفاعلية السريعة لروسيا وتحركها على مستوى مواجهة داعش ليس في سوريا فقط، لكن على مستوى المنطقة، وحتى دول آسيا الوسطى لم تنتظر موقف السعودية وإسرائيل المراهن على الفشل الأمريكي المتتابع، وإن كان يدل على أن العام المقبل سيشهد صراعًا مماثلًا على تقاسم نفوذ ما بعد داعش، ولكل هذه الأطراف السابقة أهدافها التي تبدو أنها بعيدة عن التوافق حتى كتابة هذه السطور.